[سعة علم الله]
قال تعالى: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:٢٩] في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:٢٩] قضايا:
أولها: أن هذا عام لا مخصص له، وإذا قلت للإنسان: إنك بكل شيءٍ عليم، فلا بد من مخصص، فالإنسان -والله- لا يدري ولا يعرف بأمورٍ كثيرة، وما يجهله أكثر مما يعلمه {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:٧٦] وقال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:٨٥] {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:٧].
وعلمه سُبحَانَهُ وَتَعَالى في كل مكان وهو مستوٍ على العرش، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة، أنه بائن عن خلقه، مستوٍ على عرشه، لا يغيب عن علمه مثقال ذرة لا كبيرة ولا صغيرة: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:٧] وقال: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:٥٩] {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:٥٩] وقال: {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [آل عمران:٢٩].
فسبحان القادر الباري، تسقط الورقة من الشجرة في ظلام الليل، في وادٍ منحنٍ وفي صحراء مقفرة، فيعلم الله أنها سقطت من الشجرة على الأرض تأتي أكمام الريحان والرمان، وأكمام النبات وأكمام الياسمين فتتفجر بالنبتة وتخرج الثمرة، فيعلم الله أنها أخرجت تلك الثمرة! {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد:٨] ما تحمل من أنثى من أناث البشر أو الحيوانات، أو العجماوات، أو الطيور، أو الزواحف، أو الأسماك، أو الحيات، إلا يعلم الله متى حملت، وهل يتم هذا الحمل، وهل تضع، وهل هذا الحمل من بني البشر سعيد أو شقي، وماذا يصيبه في الحياة، وماذا يأتيه من المصائب، وماذا يحدث عليه من الكوارث، وما يمرُ به من فقر أو غنى {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:٨].
مر عيسى عليه السلام ببقرة وهي حاملٌ فأتت تضع -وهذا في سيرة عيسى عليه السلام- فاعترض ابنها في بطنها، فأخذت تخور بصوتٍ أدهش أهل القرية، فبكى عيسى رحمةً للبقرة، فأنطقها الله الذي أنطق كل شيء، فقالت: يا عيسى بن مريم! أسألك بالله أن تدعو الله أن يفرج عني كربتي، والله عز وجل ينطق ما شاء، ومتى شاء، بأي لسانٍ شاء!!
يقول سليمان عليه السلام: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل:١٦] ويقول عليه الصلاة والسلام: {بينما رجلٌ يسوق بقرة، إذ ركبها فضربها فالتفتت إليه، وقالت: ما خلقنا لهذا} والحديث في الصحيح، فسبحان من أنطقها! ويقول عليه الصلاة والسلام في قصة صاحب الذئب، والحديث في الصحيح: {أخذ ذئب على رجل -والرجل من الصحابة- شاة، فلحقه الرجل، فاستلب الشاة من الذئب، فالتفت الذئب وقال: أتأخذ رزقاً رزقنيه الله؟! من يحمي غنمك عني يوم لا حامي لها إلا أنا؟!}.
فقالت البقرة لعيسى: يا عيسى بن مريم أسألك بالله أن تدعو الله أن يفرج عني.
فبكى عيسى ودعا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وقال: اللهم إنك تعلم ما تغيض الأرحام وما تزداد، وكل شيءٍ عندك بمقدار، اللهم فرج عنها كربتها، فخرج هذا التبيع في الأرض، فإذا هي تنظر!!، وهذا من آياته سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
وفي كل شيءٍ له أيةٌ تدل على أنه الواحد
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحدُ
لكن القلوب إذا ما عرفت بارئها، وما استدلت على باطنها، فمن أين تستدل؟ هل سألت الصباح: من جمله؟! هل سألت النسيم: من أجراه؟! هل سألت النجم: من بهاه؟! هل سألت القمر: من رفعه؟! فالصباح الباكر كل شيءٍ فيه يحيا، مع إطلالة الفجر، الزهرة تغرد وتسبح الباري، الطير تغرد وتشدُو وتسبح الخالق، والماء يتمتم بتسبيحه سُبحَانَهُ وَتَعَالى!!
{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الإسراء:٤٤].
فيا أيها الناس: أنتم أولى المخلوقات بالتسبيح، وأولى الكائنات بالذكر والاهتداء إلى الواحد الأحد، وإنما نزل هذا القرآن وإنما أتى هذا الكلام ليدل الناس على الله تبارك وتعالى.
فقوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:٢٩] هذا عامٌ لا مخصص له، وهو مستوٍ على عرشه -كما قلت- بائن عن خلقه، علمه في كل مكان، وكذب من ادعى أن الله حل مع خلقه، وافترى وكذب على الله، وكذب من قال: اتحد الله في خلقه، أو حل في بعض خلقه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، بل الله عز وجل موصوفٌ بصفات الكمال، على عرشه مستوٍ، ينزل كل ليلة في ثلث الليل إلى السماء الدنيا، فينادي فيقول: {هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من داعٍ فأجيبه؟} فإذا طلع الفجر عاد سُبحَانَهُ وَتَعَالى عودةً تليق بجلاله، ونزولاً يليق بجلاله، لكن لا يغيب عنه شيء: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:٧].
ما تناجى متناجيان إلا وعلم الله ما دار بينهما، وما فكرت أنت فيه إلا وعلم ما فكرت فيه، والشيء الذي قبل أن تفكر فيه يعلم سُبحَانَهُ وَتَعَالى أنك سوف تفكر فيه، فهو يعلم السر وأخفى، قالوا: ما أخفى من السر؟
قيل: الشيء الذي تريد أن تفكر فيه وأنت لا تدري الآن يعلمه سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
وقف صفوان بن أمية عند ميزاب الكعبة، وقف مع صاحبه عمير بن وهب وهو يحاوره وقال: تقتل محمداً! قال: أقتله لكن من لي بأطفالي وذريتي وزوجتي، قال: أهلك أهلي، وأطفالك أطفالي، الهدم هدمي والدم دمي! اذهب واقتله وأنا أكفيك أطفالك، فذهب وتسلح بسيفه، ولكن غارة الله أقوى من عمير بن وهب:
يا غارة الله جدي السير مسرعة في سحق أعدائنا يا غارة الله
وصل إلى المدينة يحمل قلباً كله حقد وضغينة وبغض، ويريد الانقضاض على سيد البشر ليقتله؛ ليفعل أعظم جريمة وأعظم لعنة في التاريخ، فدخل المدينة ورآه رجل مسدد ملهم عمر بن الخطاب
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
فانطلق إليه عمر وكان رجلاً مسدداً ملهماً، فأخذه بتلابيب ثيابه وسيفه وسلاحه وأتى يجره حتى أدخله المسجد، فرآه صلى الله عليه وسلم فقال: مالك يا عمير بن وهب؟ قال: يا رسول الله! أتيتُ لأفك الأسارى -أسارى بدر - وأزور أصحابي من الأساري، قال: كذبت، وإنما جلست أنت وصفوان بن أمية تحت ميزاب الكعبة، فقال لك كيت وكيت، وقلت له كيت وكيت، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة:٧].