ذكرتم في المحاضرة أهمية كثرة النوافل عند طالب العلم، لكن كثيراً من أهل العلم اعتبروا أن كثرة النوافل تشغل عن علم الحديث، بل كثير من المحدثين جرحوا المشتغل بكثرة العبادة، حتى يقال في مقام الجرح: شغلته العبادة عن الحديث وغفل، فاعتماداً على هذا نحن نكثر السهر في مطالعة الحديث، فهل يُعدُّ طلبنا للحديث من العبادة، حتى نجمع بين الخصلتين، فما رأيكم في ذلك جزاكم الله خيراً؟
الجواب
قول الأخ: إن كثيراً من المحدثين جرحوا بعض المحدثين بسبب كثرة العبادة، فيا سبحان الله!
إذا لم تكن العبادة هي المقصود من طلب الحديث فلا حيا الله هذا التشاغل، ولا هذا السهر، ولا هذا الحفظ؛ لأن المقصود من العلم هو العبادة، ترجم الذهبي لـ ابن الراوندي الملحد الزنديق الفيلسوف قال: الكلب المعثر الملعون، صاحب كتاب الدامغ على القرآن، الذي يدمغ به القرآن، وكان ذكياً، وحافظاً، لكن لعن الله الذكاء بلا إيمان، وحيا الله البلادة بالتقوى، مرحباً ببلادة بتقوى وبسجدات وبركعات.
وأما قول الأخ، فينبغي أن يفصل قوله: جرحوه، هم لم يجرحوه بسبب عبادته، لكن هو ترك الرواية وترك التشاغل بالحديث فضعف في الحديث، مثل: رشدين بن سعد وقيس بن الربيع، وغيرهما من الأئمة الأخيار الذين يقومون الليل، لكن تركوا الحديث جانباً، ست سنوات لا يراجع الحديث ثم يسأل عن الحديث فيزيد فيه متراً أو مترين، حتى يقول الإمام مالك: يخرج من عندنا الحديث شبراً ويعود من العراق ذراعاً، فهم يزيدون؛ لأنهم وهموا فيه، فليست كثرة العبادة مما يشغل، بل هي مما يصحح الذاكرة، ويقوي القلب، لكن قد جعل الله لكل شيء قدراً، أنا ما أقصد عبادة الصوفية، يذكرون عن أحدهم أنه صلى في اليوم خمسمائة ركعة ولما أتت صلاة الظهر نام عنها وتركها.
وأحدهم ذكروا عنه أنه سهر، فلما اقتربت صلاة الفجر نام حتى صلاها في الضحى، قالوا: مالك؟ قال: شغلني قيام الليل، فانظر إلى قلة فقهه، ترك الفريضة من أجل النافلة، ولكم أن تعودوا إلى كتاب العزلة لـ أبي سليمان الخطابي ذكر عن بعض الصوفية الجهلة الذين ما استناروا بنور السنة، قال: لصق على عينه اليسرى بلصقة، فقالوا: مالك؟ قال: إسرافٌ أن أنظر إلى الدنيا بعينين، والله عزوجل يمتن فيقول:{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ}[البلد:٨ - ٩] فأين عقل هذا؟! وذكر ابن الجوزي في صفة الصفوة: أن أحدهم قال: أين أنتم مني لم آكل الرطب منذ أربعين سنة، سبحان الله من حرم عليك الرطب؟! والله عزوجل يقول:{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً}[المؤمنون:٥١] فهذا الجهل ليس من العبادة لكنه من عدم الانصراف للعلم.
فأقول: وازن السنة التي ثبتت عنه صلى الله عليه وسلم كركعتي الضحى وأربع قبل الظهر وأربع بعدها إلى غير ذلك، وعليك بـ البخاري ومسلم، خذ العبادة من الكتب الستة ومسند أحمد فإنها لا تأخذ عليك وقتاً طويلاً، واحذر من كتاب الرعاية، وهو للمحاسبي، ونحوها من كتب البدع، والتي فيها يذكرون أن فلاناً كان يصلي طول وقته، فهذا متى يتفرغ لصلة رحمه ولمساعدة المساكين! والغزالي رحمه الله قال في الإحياء: إذا طلعت الشمس قام فتوضأ فصلى أربعاً، ثم ينتظر قليلاً حتى ترتفع ثم يقوم فيتوضأ فيصلي أربعاً، أين الأدلة على هذه؟ يمكن عموم {من سجد لله سجدة رفعه الله بها درجة} لكن التوازن بين العلم، والتحصيل، والعبادة مطلوب لتكون عالماً، وعابداً، وزاهداً، وحنيفاً لله، إماماً يقتدى بك في أقوالك وأفعالك.
وأنا أوصيك بتراجم بعض الناس لترى العبادة والعلم؛ انظر إلى سيرة الإمام أحمد، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وابن تيمية، وابن القيم، والمزي، وابن كثير، وغيرهم من الأئمة الجهابذة سوف ترى كيف وازنوا بين العلم والعبادة.