للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[أنس بن النضر]

أتى أنس بن النضر أحد الأنصار الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فلما رأى انهزام المسلمين في آخر المعركة وفعل المشركين قال: اللهم إني أبرأ إليك مما فعل هؤلاء -يعني المشركين- وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني المسلمين- ثم تقدم فقاتل حتى قتل، وأخذ دمه من نحره يتدفق سلسبيلاً عابراً، يعلن الشهادة والتضحية في سبيل الله عز وجل.

ثم قال صلى الله عليه وسلم: {من يلتمس لي أنس بن النضر فإني أريد أن أراه} فقد علم صلى الله عليه وسلم أنه ما تأخر إلا لشيء، قال زيد بن ثابت: فقمت ألتمسه فوجدته في القتلى وهو في آخر رمق من حياته فقد ودَّع الحياة، وأشرف على لقاء الله عز وجل {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:٢٧ - ٣٠] ارجعي من حيث جئتِ فإن أصلك من الجنة.

فوقف عليه زيد بن ثابت وسلم عليه، وقال: كيف تجدك يا أنس؟ قال يا زيد! بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام، وقل له: جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمته، لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، كأنه رأى مشاهد أو وقفات أو بعض الملامح، يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:٣٠ - ٣٢] فوصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فبلغه السلام، فدعا له عليه الصلاة والسلام.

وهذا أنس بن النضر هو الذي حلف في المسجد: لئن حضرت المعركة ليرين الله ما أصنع، فأرسل درعه وأتى مقبلاً بسيفه إلى الأعداء، فقال له سعد بن معاذ: يا أنس بن النضر! هون عليك، أما ترى كيف انهزم الناس والمشركون أقبلوا، قال: إليك عني يا سعد! إليك عني يا سعد! والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة دون أحد، هبت نسمات الجنة في أرواح المتقين فبايعوا الله رب العالمين، فأتى فقاتل ولكنه ما قتل لأول وهلة، وقف وسط جيوش المشركين، فاجتمعت عليه السيوف والرماح حتى ضرب أكثر من ثمانين ضربة بعد ما قتل فيهم مقتلة، ووقع على الأرض، قال أنس بن مالك: والله ما عرفته إلا أخته ببنان كفيه، ما عرفت وجهه، ولا رجليه ولا يديه ولا جسمه، وإنما عرفت بنان الكف، حين رفعت كفه فقالت: هذا أخي.

<<  <  ج:
ص:  >  >>