[طريقة القرآن في عرض آيات التوحيد]
وأنا قلت لكم في بداية المحاضرة: لا أعتمد على التقسيم المنطقي أو تقسيم بعض المؤلفين في كتبهم، بل أعرض التوحيد عرضاً على طريقة القرآن, فالقرآن مرة يُحدثك عن آيات الله في الكون وهو يتكلم لك في التوحيد, ومرة في الحدائق، ومرة في البساتين، ومرة في خلق الناس، ومرة في الحيوانات, وهو يريد أن يحدثك عن التوحيد.
ويقول الله سبحانه: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:١١] وهذا يسمى عند المفكرين العصريين: تحدٍ سافر.
{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:١١] اخرج وانظر في الناس، والفواكه، والخضروات، والأحياء، والمخلوقات.
{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:١١] أروني خلق الأصنام وأروني خلق الأوثان وأروني خلق الطرقية وأروني خلق العلمانية والشيوعية الكافرة, أروني ماذا خلقوا في الكون ولو ذبابة أو بعوضة, فعلم من ذلك أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى انفرد بالخلق.
وقال سبحانه: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل:٦٠] فمن تطوير أساليب تعليم التوحيد أن تأخذ طلبتك من الفصل، وتدخل بهم الحديقة والبستان، وتكلمهم عن التوحيد وأنت في البستان, ولا يكفي فقط أن تشير بالطباشير على السبورة، وهذه قد تكون نافعة في جانب، لكن اخرج بهم, وحدثهم عن الزهور والطل والندى والماء والشجر والحجر.
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا
والنحل قل للنحل يا طير البوا دي ما الذي بالشهد قد حلاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا
فالحمد لله الكريم لذاته حمداً وليس لواحد إلاكا
طريقة القرآن عرض الآيات للناس، وهذه نسيها التعليم والإعلام, فالتعليم الإسلامي نسي هذه الطريقة, وهو أن يؤتى بالشباب والناشئة فيربطون بالكون على أنه آية من خلق الله، ويردهم إلى معرفة الله, فينشأ الشاب متفكراً في آيات الله عز وجل.
يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:٦٥ - ٦٦] يقول الرازي في هذه الآية: الخطاب موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم, فالله يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:٦٥] كيف وهو الذي أتى بالتوحيد؟!
كيف وهو الذي علَّم العقيدة الصحيحة؟!
كيف وهو الذي أجرى دمه ودموعه وحمل السيف ليرفع لا إله إلا الله؟!
ونشرت دين الله يا علم الهدى ورفعته حتى استقام هناكا
قال من باب "إياك أعني واسمعي يا جارة" فما دام أنك إذا فعلت ذلك عُذبت وكنت من الخاسرين, فكيف بالأمة؟ {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:٦٥ - ٦٦].
يا أيها الإخوة! العقيدة في كل البلاد الإسلامية قد تفهم وتحفظ, لكننا نحفظها ونفهمها كما يحفظ الإنسان المسألة الحسابية أو المعادلة الرياضية, نحفظ قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:١١] ونحفظ كتب العقيدة وفيها: يضحك ربنا ضحكاً يليق بجلاله.
وفيها: الله يطلع على الكائنات وخائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وفيها: الله يعلم الغيب وأخفى، والسر وأخفى, لكن انظر إلى توحيد هذا الحافظ في حياته، ينظر إلى المرأة، ويشرب الكأس، ويتعامل بالربا، ويزني، ويعق والديه، ويقطع رحمه, فأين أثر التوحيد؟! أمن أجل أنه يحفظ كذا ويقول: هذا توحيد أهل السنة والجماعة يعتبر موحداً؟!
إن التوحيد اعتقاد، وعمل، ونطق, فإذا نقص أحد هذه الأركان الثلاثة نقص بحسبه, ولما لم يتربَّ الناس على التوحيد والإيمان بقوة أتت هذه المخالفات حتى من رجل قد يحفظ القرآن كله والسنة كلها.
ويقول سبحانه وهو يتكلم عن التخلية والتحلية, التخلية من الشرك والتحلية بالتوحيد, وأسلوب القرآن التخلية أولاً، فهو ينسف الساحة من الأوثان، ويدمرها تماماً، ثم يأتي بتقرير التوحيد، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:٣].
وهذه تنطبق على من اتخذ من دون الله إلهاً آخر ولو كان صنماً أو شيخاً أو جهة أو لعبة أو حكومة أو كياناً أو مسئولية أو دائرة.
فهذه من لمسات التوحيد على القلوب التي يشهدها الإنسان، والتي عرضها القرآن عرضاً كثيراً في غضون آياته، قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [الأنعام:١٧] يجدها المريض، والمبتلى والذي أصيب بكارثة، حتى إن الإنسان يجد قوة التوحيد في بعض الأزمات التي تمر به, وقد رأينا من بعض الشباب أنه ما عرف التوحيد الخالص إلا يوم أصبح على السرير الأبيض في المستشفى, أو أصابه حادث انقلاب بسيارة, أو أصابته كارثة, أو أصابه مرض عضال فالتجأ إلى الله.
وقد عرضتُ قبل ثلاث محاضرات قول الشاعر المجرم لأحد السلاطين وهو يمدحه:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
فعلمه الله من هو الواحد القهار, ومن هو الذي ينفع ويضر، فأصابه مرض مؤلم فأخذ يعوي على فراشه كالكلب، ويقول:
أبعين مفتقر إليك نظرتني وأهنتني وقذفتني من حالقِ
لستَ الملوم أنا الملوم لأنني علقت آمالي بغير الخالق
لا إله إلا الله!
سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولم يزل مهما هفا العبد عفا
يُعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا
{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} [الأنعام:١٧] هذه الأحداث التي تمر بالإنسان إن لم تزده توحيداً فما صلح, وأنتم تعرفون قصة أهل " الله يتجلى في عصر العلم " لما أبحروا، وكانوا أمريكان، ورسبت بهم السفينة، وانقطعت الاتصالات؛ فالتجئوا إلى الله, كل الفطر تعرف الله, وأنقذهم الله فأسلموا, ويقول سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:٦٢] هكذا العرض القوي الصادق, وهذه هي الأساليب القوية المؤثرة في الناس: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:٦٢] المضطر الذي يبلغ بحاجته إلى من يعينه، وفي حاجة من الضرورة الماسة ما بعدها ضرورة, فمن الذي يجيب المضطر؟
إنه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ويتخلى المشركون عن الأوثان والآلهة التي اتخذها الناس وقت الحاجة، ويلتجئ القلب إلى الله ويتخلص من غير الله، فالله يقول: من الذي يجيب المضطر إذا دعاه؟ من الذي يكشف السوء؟ من الذي يجعلكم خلفاء في الأرض؟ أإله مع الله؟ قليلاً ما تذكرون.
إذاً: أنتم ما عندكم ذكر ولا فكر.
ويقول سبحانه وهو يعرض آيات التوحيد في الكون: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:٩ - ١١].
{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً} [ق:٩].
انظر إلى نزول الماء يعلمك ويلقنك دروساً من التوحيد.
{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} [ق:٩ - ١٠] لله دره من أسلوب! قال: باسقات، ولم يقل: طويلات, لها طلع ولم يقل: ثمر، قال: نضيد ولم يقل جيد أو طيب، باسقات طلع نضيد، وهي أساليب منتقاة؛ لأن القرآن لا يأخذ الأساليب المبتذلة في السوق.
قال الله: فمن ينزل ذلك؟ إنه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى, والنخل فيها مدرسة، والنحل كذلك وكل الكائنات.
والعجيب أن الحيوانات تعرف أن الباري هو الله، إلا الإنسان إذا ارتكست فطرته, الهدهد يلقي محاضرة عن التوحيد على سليمان, قال: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل:٢٢ - ٢٤] لماذا يسجدون للشمس من دون الله؟
قالوا: عرف الهدهد الله، فألقى محاضرة على من عرَّف بالله، وهو سليمان عليه السلام.
ويقول سبحانه: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:١٠٦] والظالم هو الذي يضع الشيء في غير موضعه, فالله أمر كل مسلم ألا يدعو إلا الله, وألا يستجير إلا بالله, وألا يستغيث إلا به, وفي الحديث الصحيح عند الترمذي وأحمد: {وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك, رفعت الأقلام وجفت الصحف}.
أمة مسلمة عددها مليار، تقول: لا إله إلا الله، لكن تعال في الطواف تر تمائم معلقة، وحروزاً ومسبحة طولها متران، يقول: هذه فيها ذكر وهو ذكر غير شرعي, من صلاة التراويح إلى صلاة القيام وهو يقول: حي حي حي!! كأنه يطرد غنماً, أو: هو هو هو!! وهذا نباح كلاب, أو: يا لطيف يا لطيف يا لطيف, ودعاء الاسم المجرد لا يكفي، مثلاً: يطرق عليك طارق: يا محمد يا محمد, من علمهم هذا؟
إنهم أولئك الذين جهلوا رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام.