وفي سيرة إبراهيم عليه السلام، وقد كان إبراهيم كريماً شجاعاً، وفي القرآن كان لإبراهيم روغتان، فأما الروغة الأولى:{فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ}[الصافات:٩٣] هذه روغه الشجاعة، وهناك:{فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ}[الذاريات:٢٦] فذكره الله بالشجاعة في القرآن وذكره بالكرم وكلها يقصد بها وجه الله؛ لأن بعض الشجعان يقصدون بها الرياء والسمعة، وأما إبراهيم فهو الشجاع الكريم الذي يريد بشجاعته وجه الله؛ لأنه ما كل إنسان شجاع يكون في الجنة سالماً مسلماً، ولا كل إنسان ينفق أمواله ويفرش السرادقات والمخيمات أنه في الجنة، فمن الذين يؤتى بهم يوم القيامة لتسعر بهم النار العالم والمنفق والشجاع.
فإبراهيم عليه السلام كانت شجاعته وكرمه لله، حتى يقول عز من قائل:{فَرَاغَ}[الذاريات:٢٦] يعني: من كرمه ومن سماحته ومن جوده راغ، يعني: اختفى أو ذهب بروغان ليس صمداً عمداً، لم يذهب أمام الضيف، إنما اندس وذهب فذبح عجلاً كبيراً حينئذٍ، ثم حنذه كما في سورة الذاريات أنه سمين، فهو سمين حنيذ، ثم قدمه للضيف؛ لأن البخيل لا يروغ ولا يندس، بل يأخذ شفرته أمام الضيف ثم يسنها ويحدها ويصلي ركعتي الاستخارة ويدعو الله عز وجل إن كان الخير في أن يذبح هذا الكبش إن الله يسهل له أن يذبحه، وإن كان الشر في أن يذبح هذا الكبش فإنه يدعو الله أن يصرف عنه هذا الشر، ثم يقوم ويشاور ويعوذ بالله من الكرب فما يأتي هذا الكبش إلا وعليه من الندامة والأسف كأنك لا تأكل لحماً، بل كأنك تأكل علقماً، لأنهم يقولون: وليمة اللئيم إنما هي سقم يعني: لا يجد الإنسان فيها إلا سقماً، يعني: لا يجد الإنسان فيه شفاءً إنما هي سقم، ولذلك العرب تفتخر بأنها تبش وتهش للضيف قبل أن يصل، ولذلك ليس الكرم في كثرة الضيافة، فبعض الناس يقدم من الأطعمة شيئاً كثيراً لكنه غضبان؛ لأنهم ملئوا المجلس عليه وافترسوا أكله، لكن الكريم من العرب من يهش ويبش، يقول الأزدي:
أحادث ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمكان جديب
فما عندي في البيت شيء، ولكن قبل أن ينزل من راحلته أحادثه وأمازحه:
وما الجود للأضياف أن يكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيب
فإبراهيم عليه السلام كان له قصر في فلسطين، وكان هذا القصر له بابان فقال لغلمانه وخدمه: من أتى منكم بضيف فهو حر لوجه الله، فكان هؤلاء العبيد يقفزون الجبال ويذهبون إلى أماكن الفقراء والمساكين ليأتوا بالضيوف، ووصفه الله أنه كريم في القرآن فأوتي بضيف مرة فدخل عليه وإذا بهذا الضيف كافر، يظن إبراهيم أنه موحد، فضيوف إبراهيم خصصهم أنهم موحدون، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام -كما في الترمذي - قال:{لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي} فإبراهيم عليه السلام يرسل ويقول: تعالوا لي بموحدين، فدخلوا برجل فما سأله إبراهيم عليه السلام فلما قرب العشاء له قال إبراهيم: قل باسم الله، قال له: لا.
لا أقول بسم الله ولا أعرف الله، قال: والله لا تتعشى، فالولاء والبراء حتى في الطعام.
كيف لا تقول بسم الله؟ هل علمت إلهاً غير الله، هل لك إله أكبر من الله؟ قال: والله لا تتعشى، فقام هذا الضيف بجوعه فأوحى الله إلى إبراهيم: كم عمر هذا الرجل؟ قال: لا أدري يا رب، قال: عمره خمسون -وقيل: ستون- أطعمه منذ ولدته أمه، وأنت استطعمك ليلة فما أطعمته! ولذلك كم من كافر يهد الجدار اليوم أو فاجر أو معرض عن الله عز وجل لا يعرف المسجد ولا يركع لله ركعة، والله يرزقه ويلبسه ويعطيه سيارة أمريكية فاخرة ويسكنه في القصور؛ لأن الله عز وجل سُبحَانَهُ وَتَعَالَى سوف يرجع إليه الناس حتى يقول أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{يؤتى بأنعم أهل الأرض -يعني: من أهل الضلال- فيغمس في النار غمسة واحدة -في ثوان- ثم يخرج من النار، فيقول الله: هل رأيت نعيماً قط؟ قال: ما رأيت نعيماً قط -نسي كل نعيم- ويؤتى بأهل الخير وأهل الإيمان، من أهل البؤس فيغمسون في الجنة غمسة، فيقول الله: هل رأيت بؤساً قط؟ قال: ما رأيت بؤساً قط} فهذا من كشف الكرب التي جعلها الله عز وجل.