للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الرجل الأول: كذاب]

{أما الرجل الأول الذي رأيت أنت فإنه رجل كذاب} الرجل الذي يشدخ بالكلوب أو يشرشر بالكلوب هو رجل كذاب؛ لأن الكذبة تخرج من لسانه فتبلغ الآفاق، فجزاؤه لما خرجت الكذبة منه أن يعذب بالكلوب، قال بعض العلماء: هذا يحصل لهم في الآخرة في النار، الرجل يكذب الكذبة، فتسير في الآفاق وهو سببها، جزاؤه أن يعذب بالكلوب في نار جهنم، قال الشاعر:

لي حيلة في من ينم وليس في الكذاب حيلة

من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة

كل رجل لك حيلة فيه إلا الكذاب.

وقال جعفر الصادق لابنه: "لا تصاحب ثلاثة: عاق الوالدين، ولا الكذاب، ولا البخيل، فإن عاق الوالدين ملعون في السماء ملعون في الأرض، وإن الكذاب يقرب لك البعيد ويبعد عليك القريب -مثل السراب يأتيك بكذبات مدلهمة- وأما البخيل: فيبيعك أحوج ما تكون إليه"

{قالا: فأما الرجل الذي رأيته فإنه رجل كذاب يكذب الكذبة فتحمل عنه في الآفاق} وبعضهم متخصص في فن الكذب، عنده شهادة في ذلك فهو يعرف صياغة الكذبات ولا تغيب عليه.

أحدهم ذهب كما في بعض المجالس إلى فلسطين ومر بـ قناة السويس وعاد إلى البلاد بحفظ الله ورعايته، قال له جماعته: حدثنا يا فلان عما رأيت! قال: رأيت في قناة السويس سفينة طولها ما بين الطائف وتبوك، وقيل في رواية: عرضها ما بين الطائف إلى تبوك، قالوا: بدِّل غير هذا، قال: لا لن أغير، فذهبوا في بيوتهم وتفكروا في هذه السفينة؛ وقناة السويس ليست بهذه السعة فتكفي السفينة؟! وعادوا إليه، وأرادوا أن يتنازل ولو في كيلو مترات، علَّ الله أن يفتح عليه، وبعض الناس كريم، وهم كذلك مزاحون فيهم فكاهة، فطرقوا الباب عليه فدخلوا، قالوا: لا نأكل عندك طعاماً حتى تلبي طلبنا، قال: تفضلوا لو طلبتموني أحد أبنائي قدمته لكم، قالوا: نسألك بالله أن تلبي طلبنا، قال: ما هو طلبكم؟ قالوا: لقد قلت السفينة من الطائف حتى تبوك وهذه لا توجد في الدنيا فنسألك بالله كرامة لنا وحشمة أن تخفف من عرضها قليلاً، قال: حشمة لكم، وأنتم من أغلى الناس، أقلل، إنها من الطائف إلى جدة وأما غيرها لو سألتموني سنتيمتراً واحداً ما أنقصت، هذه من الكذبات الكبار.

وبعضهم يكذب لكن بنكات، فعليه وزر من الإثم مثل ما كذب.

حالات يجوز فيها الكذب:

والكذب محرم بالإجماع إلا بثلاثة أمور:

الأول: أن تصلح بين اثنين، تذهب إلى هذا وتقول: يمدحك فلان، ولو أنه لم يمدحه، وتذهب إلى الثاني، وتقول: فلان يثني عليك فأنت تريد الخير، هذا الجائز لحديث عند أبي داود.

الثاني: الرجل مع امرأته، والمرأة مع الرجل في حدود، كأن يقول: هو يحبها وهي تحبه ويبني لها جبالاً من أوهام، تقول: أثث البيت يقول: في العام القادم، إن شاء الله سوف آخذ أثاثاً ما ورد في الشرق الأوسط مثله، فهذا جائز يعني على الأمان.

اكذب النفس إذا حدثتها إن صدق النفس يغري بالأمل

أما الكذبات التي على الزوجة أو على الزوج مثل أن يزعم لها أخباراً أو تنقل له أخباراً كاذبة، فهذا لا يجوز، فالجائز هو ما كان في حدود العشرة فقط، لأنه لو لم يكن شيء من التدليس في هذا الباب لما صلحت العشرة، قد لا يحبها ولا تحبه، لكنه هو يزعم أنه يحبها حباً جماً وهي تقول ذلك.

الثالث: في مسألة الحرب، والحرب خدعة، لك أن تكذب على اليهود وعلى الروس، وهذا يدخل في علم استراتيجية الحروب، كأن تخرج الصحف ويقولون من ضمن أخبارهم: سيزور فلان ثم يصبحونهم بالقتل، أو أننا وقعنا على مذكرة هيئة الأمم ثم يعدمونها بالصواريخ، وهذه يعرفها أصحابها، ومن يقرأ كتاب اللواء الركن محمود شيت خطاب في كتابه الرسول القائد يعرف ذلك، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد حرباً ورى بغيرها كأن يريد الشمال قال: كيف طريق الجنوب؟ هل فيها مياه؟ هل هي وعرة أو سهلة؟ وإذا كان يريد الشرق، قال: كم من هنا إلى الغرب أو إلى المدينة التي في الغرب أو كذا، إلا غزوة تبوك لضخامتها ولعسرها فلم يور بغيرها.

قال: {فهو يصنع به ما رأيت إلى يوم القيامة، ثم يصنع الله به ما شاء} كأنه في قبره يعذب حتى يفعل الله ما شاء، وفيه دليل على عذاب القبر، وفيه دليل على أن عصاة الموحدين قد يعذبون، وفيه دليل على أن العاصي من الموحدين لا يخلد في النار لأنه يقول: ثم يفعل الله ما يشاء، ولو كان يخلد كما قالت الخوارج ما كان قال: ثم يفعل الله ما يشاء.

<<  <  ج:
ص:  >  >>