[زهد السلف في الدنيا والتنافس على الآخرة]
أيها المسلمون: أتى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الناس فدعاهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض، لم يمنهم بملك في الدنيا، أو يعدهم أنهم سوف يجدون مالاً أو نعيماً أو رغداً فيها، ولم يبن لهم قصوراً ولم يهيئ لهم دوراً أو يلبسهم لباساً، إنما يأتي أحدهم ببردته الممزقة لا يجد ما يشبع بطنه من خبز الشعير، ويأتي عليه الصلاة والسلام بحجرين يربطهما على بطنه في حفر الخندق من شدة الجوع، ولكنه يعلم الناس حب الجنة، ويصف لهم الطريق إليها، وأن هذه الدار ليست دار قرار، إنما هي دار عبور، وليست دار للمكث فيها ولا الرضا بها، ومن رضي بها واتخذها سكناً وأخلد إليها فذاك ملعون شقي مبعد عن الله.
وقف عليه الصلاة والسلام يتحدث إلى الجوعى من الصحابة الذين تركوا الدور والقصور والجيران والإخوان والخلان، وباعوا أنفسهم من الواحد الديان، وقف إليهم قبل معركة بدر، والمشركون أمامهم وسيوفهم بأيديهم، لم يخرجوا رياءً ولا سمعة، وقف يتحدث إليهم وهم الذين قال فيهم بعد ذلك: {إن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم} فيقول لهم قبل المعركة: {والله! ما بينكم وبين الجنة إلا أن يقتلكم هؤلاء فتدخلون الجنة} فيأتي عمير بن الحمام -صحابي فقير من الفقراء وزاهد من الزهاد لا يملك إلا ثوبه وسيفه -فيقول: يا رسول الله! أسألك بالله ما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء فأدخل الجنة، قال: إيه والذي نفسي بيده، ومع عمير تمرات يأكلها من الجوع- لكنه ما استصاغ أكل التمرات- فرمى التمرات وأخذ غمد سيفه فكسره على ركبته واستقبل الجنة، وقال: اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى، والله إنها لحياة طويلة إذا بقيت حتى آكل هذه التمرات ثم أخذ درعه فأنزله عن منكبيه- وهذا علامة الخطر والفداء، والشجاعة النادرة- وتقدم فقتل حتى قال عليه الصلاة والسلام: {لقي عمير بن الحمام ربه وهو يضحك إليه} ويأتي مالك بن عامر من الأنصار فيقول: يا رسول الله! وذلك في يوم أحد، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول للصحابة: نقاتل الأعداء هنا داخل المدينة، لأن من الخطة الحربية الرائعة أن يدخل العدو في المدينة فيقصف في زقاق المدينة وفي سككها، لكن قام هذا الشاب وهو في الثانية والعشرين من عمره من الأنصار، من الذين أرادوا الله والدار الآخرة، فقال: يا رسول الله! لا تحرمني دخول الجنة، اخرج بنا إلى أحد ولا تحرمني دخول الجنة، والله لا إله إلا هو لأدخلن الجنة، فتبسم عليه الصلاة والسلام وهو على المنبر وقال: -والناس يستمعون والأبطال لبسوا دروعهم في المسجد، والمهاجرون والأنصار صامتون ساكتون يستمعون إلى الحوار الحار بين المصطفى وبين جندي من جنوده -فقال: بم تدخل الجنة؟ قال: بخصلتين: أني أحب الله ورسوله، ولا أفر يوم الزحف، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: إن تصدق الله يصدقك -إن كنت صادقاً فأبشر ثم أبشر- وبدأت المعركة في الصباح وأتى هذا الشاب فوضع درعه وأخذ غمد سيفه فكسره على ركبته، وقال: اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى.
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أغلى غاية الجود
فقتل وأتى عليه الصلاة والسلام وإذا هذا الرجل وجهه معفر في التراب فمسح الغبار عن وجهه وقبله وبكى، وقال له: {صدقت الله فصدقك الله، صدقت الله فصدقك الله، صدقت الله فصدقك الله} هؤلاء أهل الإيمان والحب والطموح شهداء في الأرض وليسوا شهداء الفن والغناء الماجن والمسرح الذي يموت على أغنية، أو ينزل من المسرح فتنكسر رقبته فيسمى شهيد المسرح، بل شهيد الكذب والرجعية، وشهيد الفكر العفن والتخلف.
يقف جعفرالطيار يوم مؤتة وهو في أرض الأردن وقد ترك زوجته وأطفاله وماله وداره وخرج إلى الله الواحد الأحد، فأتى في مؤتة والصحابة ثلاثة آلاف بينما الروم مائة وثمانون ألف، فوقف جعفر وأخذ يلتفت إلى المسلمين وهم يقولون: كيف نقاتل مائة وثمانين ألفاً ونحن ثلاثة آلاف فقال: أما أنا فقد بعت نفسي يوم أن خرجت من المدينة:
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
أم من رمى نار المجوس فأطفئت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا
ومن الألى دكوا بعزم أكفهم باب المدينة يوم غزوة خيبرا
أتى جعفر وقال: [[اللهم اشهد، اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى]] الدم ليس المال ولا الدار ولا العقار، فأقبل على العدو كالأسد الهصور، فقطعت يمينه في أول النهار، فأخذ الراية في يسراه وأعلن لا إله إلا الله محمد ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فقطعت اليسرى، فأخذ الراية بساعديه على صدره، فأقبل الروم بالرماح فدكوا الرماح في صدره حتى وقع شهيداً على الأرض، والرسول عليه الصلاة والسلام يتابع جعفر من المدينة وجعفر في مؤتة قريباً من أرض معان في الأردن وراءها مئات الأميال، فلما قتل جعفر نحب عليه الصلاة والسلام بكاءً عليه، فهذا شوق الحبيب لحبيبه، وجعفر لم يبك يوم قطعت يمينه؛ لأن العظماء لا يبكون في وقت العظمة، وإنما أخذ يتبسم ويقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
عليَّ إن لاقيتها ضرابها
ويأتي القائد الثالث ابن رواحة فإنه تقدم في المعركة زيد بن حارثة فقتل فتقدم جعفر فقتل فتقدم ابن رواحة، وقام عليه الصلاة والسلام يلقي خطبة تأبين وتعزية على الناس ويخبرهم بمصير القواد العظماء الثلاثة فيقول: {والذي نفسي بيده لقد عرضوا عليَّ على ثلاثة أسرة من ذهب وقد دخلوا الجنة، أما جعفر فكلمه الله كفاحاً بلا ترجمان} جعفر الطيار بن أبي طالب كلمه الله، وأبدله بيديه جناحين اثنين يطير بهما في الجنة حيث شاء، من شجرة إلى شجرة، ومن روضة إلى روضة، ومن قصر إلى قصر، سلام عليك يا جعفر! سلام عليك يا من بعت الحياة لأجل أن ترفع لا إله إلا الله في الحياة، سلام عليك يوم نلقاك ونسأل الله أن يجلسنا معك، فلسنا من الشهداء وما قدمنا وما فعلنا للإسلام شيئاً ما قمنا الليل ولا نهكت منا الأعراض، لكن يا جعفر! نحبك والمرء يحشر مع من أحب:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواءً في البضاعة
أيها المسلمون: هبت نسائم الجنة وظلالها وهواؤها، فهل من مستنشق للجنة؟ يقول أنس بن النضر في معركة أحد -قبل المعركة- وسعد يقول: لا تقدم يا أنس! -أحد شباب الصحابة- قال أنس: [[يا سعد! إليك عني، والله الذي لا إله إلا هو إني أجد ريح الجنة دون جبل أحد]] وفي الضحى قتل أنس وضرب ثمانين ضربة حتى ما عرفته أخته إلا ببنانه وأصابعه وحارثة بن الربيع وأتت أمه تبكي وتقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {ابني في الجنة فأصبر وأحتسب، أم هو في غير ذلك؟ قال: أهبلتِ -أجننتي- أهي جنة واحدة والذي نفسي بيده إنها لجنان كثيرة وإن ابنك في الفردوس الأعلى}
أيها الناس: صلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:٥٦] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ على نبيك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين! اللهم ارض عن الصحابة الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين!
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه، اللهم حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان واجعلهم من الراشدين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، اللهم انصر المجاهدين الأفغان، اللهم انصرهم في أرض أفغانستان، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم من قتلته منهم فاجعله شهيداً مع جعفر وزيد، وابن رواحة، اللهم ارفع كلمة الإسلام بجهادهم وثبتهم على الإسلام، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، اللهم رد إلينا مقدساتنا وحرماتنا ومجدنا وكرامتنا يا رب العالمين! اللهم أذل اليهود ومن شايعهم وسار في ركبهم، إنهم لا يعجزونك يا رب العالمين!
اللهم رد شباب المسلمين إليك، اللهم حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.