للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[قصة سبأ آيات لكل صبار شكور]

الحمد لله حمداً، والشكر لله شكراً، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله الصادق الأمين، أدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين، فعليه الصلاة والسلام وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

أمَّا بَعْد:

عباد الله: يقول الله تبارك وتعالى في محكم كتابه العظيم: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:١٥ - ١٩].

ينتقل بنا القرآن الكريم إلى مدينةٍ من مدن اليمن، قريبة من صنعاء ليتحدث لنا عن أهلها وما كانوا فيه من نعيم، فقد كانوا في رغدٍ من العيش كما نحن اليوم نكون، وكانوا في بسط وفي أمن وسكينة، وفي راحة وطمأنينة.

وكان لهم سد أرسل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عليهم الأمطار الغزيرة ليمتلئ بها هذا السد فيختزن كميات هائلةٍ من الأمطار يصرفونها عن طريق الري والصرف في مزارعهم، وأنبت الله لهم من كل زوجٍ بهيج: من الأشجار اليانعة والأعناب والنخيل والحبوب، حتى قال أهل التفسير: كانت المرأة من نسائهم تذهب بالمكتل على رأسها فتمر من تحت تلك الأشجار المثمرة فيمتلئ هذا المكتل من كثرة ما يتساقط فيه من الثمار، وكان عذق النخلة لا يحمله إلا الفَرَسان من عظمته ومن كثرة ما فيه من الثمار، وكانت المياه صافية، وكان الأمن والسكينة الرغد، وكانت بحبوحة العيشِ كما نعيش فيه نحن الآن.

لكن أهل هذه القرية وسكانها أعرضوا عن أمر الله، وكفروا نعمته، فقابلوا الجميل بالقبيح، وفعلوا المعاصي، وفشا فيهم المنكر فما نهوا عنه ولم يأمروا بالمعروف، وسكت الجميع على الفعل القبيح، وتمردوا على رسالة الله، فسلط الله عليهم حشرة من أضعف حشراته سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فأراً واحداً فنقب هذا السد المنيع الهائل المتين، وأتى الماء مع هذا النقب وانهدم هذا السد وفي الأخير بُدِّلوا بعد النعمة نكداً، وبعد الرخاء ضيقاً، وبعد الخصب والمطر والسكينة والأمن فقراً وسخطاً ولعنة، فتفرق أهالي سبأ: {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ:١٩] خرج الغساسنة إلى الشام، والمناذرة إلى العراق، والأزد إلى عمان، والأوس والخزرج إلى المدينة، وخزاعة إلى مكة؛ لأنهم لم يشكروا نعمة الله، واسمعوا السياق وعيشوا مع الآيات.

يقول جل ذكره:

{لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ} [سبأ:١٥] آيةٌ على أن هناك إلهاً، وأن هناك رباً يجب أن يعبد: {آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} [سبأ:١٥] كان لكل إنسانٍ منهم عند بيته جنة -بستانٌ عظيم عن يمين بيته وعن شماله- يقطف الثمار ويأخذ المحصول في أمنٍ وراحةٍ وسكينةٍ وطمأنينة.

ثم قال لهم الله: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} [سبأ:١٥] فالنتيجة لهذا الرزق هي الشكر وإظهار النعمة لمسديها سُبحَانَهُ وَتَعَالى، واستعمالها فيما يقرب العبد من الله تبارك وتعالى، لا أن نقابلها بالكفر والجحود، والمعصية والجريمة والتبجح على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وعلى شرعه: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:٤١].

الذين إن مكناهم بالمال والتأييد، وبالصحة والأمن، وبرغد العيش، وبالسكينة والطمأنينة في بلادهم وأوطانهم وأجسامهم وأولادهم وبيوتهم ماذا يفعلون يا ترى؟ هل يرقصون ويغنون ويطبلون؟ هل يعصون ويقترفون المعاصي ويخرجون على حدود الله؟ لا.

قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:٤١].

وانظر إلى التعقيب في آخر الآية بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:٤١] إليه يرد العمل فيجازي المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته.

{كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:١٥].

بلدةٌ ذات رخاء، مساكن كثيرة وأمطار غزيرة، وأرزاق وفيرة.

بلدةٌ طيبة، تأتي إليها الثمرات من كل مكان، كما تأتي الثمرات إلينا وإلى بلادنا في هذا الزمان من كل دولةٍ من دول الأرض، اشكروا لله ولا تكفروا نعمة الله، ولا ترضوا بالمعصية بينكم، ولا تتعدوا حدود الله، وتنتهكوا حرماته.

ربٌ غفور: يغفر السيئة ويقبل التوبة، ويستر الخطيئة، ويرضى بالقليل، ما أحسن هذا النعيم الذي نعيشه كما عاشه، أهل سبأ! بلدةٌ طيبة: من أرغد شعوب الأرض ومن آمن بلاد الأرض.

وربٌ غفور: يدعونا صباح مساء لأن نستغفر ونتوب، يدعونا كل يومٍ أن نشكر.

وهذا على الإيهام والتهويل والإجمال أعرضوا هكذا، فهم أعرضوا عن شريعة الله، كما أعرض كثيرٌ منا اليوم! أعرضوا عن رسالة التوحيد، كما أعرض كثيرٌ منا اليوم!

أعرضوا عن كتاب الله كما أعرض كثيرٌ منا اليوم!

فتجد الكثير -إلا من رحم الله- أعرض عن كتاب الله إلى المجلات الخليعة السافرة الداعرة، والكتب المتلوثة بالأفكار السيئة، وأعرض عن بيوت الله إلى مجالس اللغو ومجالس التهتك والجريمة، وأعرض عن منهج الله إلى منهج الشياطين ودعاة الإلحاد، وأعرض عن سماع ذكر الله إلى سماع الأغاني الرخيصة الماجنة.

{فَأَعْرَضُوا} [سبأ:١٦] ثم سكت الخطاب فقال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ:١٦] هذا هو التأديب لمن لم يتأدب، وهذا هو الجزاء لمن لم يشكر النعمة، وهذا هو النكال، وينوع تبارك وتعالى في التأديب، يقول عز وجل: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:٤٠].

أرسل الله عليهم السيل فدمر سدهم، وأهلك محصولهم، وعاث ببساتينهم وحدائقهم، فتفرقوا في الأرض.

بكى الأطفال وهم يسافرون ويرون الرحيل من بلادهم الآمنة، وبكت النساء وهنّ ينظرن إلى الخراب والإبادة والتدمير التي حلت بأوطانهم وكأن الخطاب يعنينا نحنُ على لسان القائل:

إياك أعني واسمعي يا جارة.

وما فائدة هذا الخطاب إن لم نتدبر ونتعظ وقد ذهب أهل الخطاب.

انظروا إلى جيراننا الذين أعرضوا عن منهج الله ورسالته، كيف سلط الله عليهم التدمير والإبادة، ينامون على أصوات الصواريخ، ويستيقظون على صيحات المدافع، تتساقط قصورهم على رءوسهم، وتتباكى نساؤهم في شوارعهم، ويموت أطفالهم أمام عيونهم لأنهم تلبسوا بالجريمة، ولأنهم لم يشكروا النعمة، ولأنهم ما عرفوا الله، فلقنهم الله دروساً قاسيةً لا ينسونها مرةً ثانية، يعيشون الخراب والدمار، ويعيشون العذاب والويل، ويعيشون الجوع والتمزق.

{فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:١٦] {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} [سبأ:١٧] هم الذين أساءوا وما أسأنا نحنُ، وهم الذين ردوا على الجميل بالقبيح، وهم الذين كفروا النعمة، وهم الذين تسببوا في هذا التدمير والإبادة، فأعرضوا {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:١٧].

ثم عاد سُبحَانَهُ وَتَعَالى ليذكرنا بصورٍ من صور النعمة التي عاشوها: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً} [سبأ:١٨] حتى أن أسلوب المواصلات كان ميسراً في عهدهم، يتصلون بمدنهم وقراهم في أيسر وقت وأسهله، في أمانٍ وطمأنينة كما نتصل نحن اليوم بأسباب المواصلات في أمن ورغدٍ من العيش:

{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} [سبأ:١٨] لا تخافون، دماؤكم محقونة، ومساكنكم مأمونة، وأموالكم محفوظة، كما نعيش اليوم:

{فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ:١٩] كأنهم بأفعالهم دعوا على أنفسهم، وإذا رأيت العاصي والمجرم ينتهك حدود الله فكأنه يقول لله: يا رب! نكل بي، ويا رب! عذبني، ويا رب! أبعدني عن ساحتك! قال تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [سبأ:١٩] ما ظلمهم الله، وما اقترف الله بحقهم نكالاً ولا ظلماً، ولكنهم ظلموا أنفسهم بما كسبت أيديهم: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:٧] {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ)) [سبأ:١٩] هل نرى لهم ركزاً؟ هل نسمع منهم من أحد؟ هل نرى بساتينهم وحدائقهم؟ لا.

إنما بقي حديث السمر من أخبارهم، عظةً وذكرى {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} في هذا الأسلوب الغريب الرهيب، مزقناهم كل ممزق: ففرقنا بين الوالد وولده، وبين الزوج وزوجته، وبين الأخ وأخيه، جزاء ما فعلوا، ثم قال تبارك وتعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:١٩] هذا هو الشاهد من القصة ووجه الاستشهاد: أن تدبروا، يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! تدبروا في مصارع الغابرين، وانظروا كيف فعل الله بالمجرمين، لتأخذوا حذركم:

مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد

وإن لم تتنبهوا فسوف تقعون في ما وقعوا فيه، من التمزق والتدمير والإبادة والجوعِ، ومن المقتِ والنقمة والغضب والسخطِ وسوء المنقلب إلى الله.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم

<<  <  ج:
ص:  >  >>