للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[المعنى المقصود من الحروف المقطعة]

اختلف أهل العلم في هذه الحروف والله أعلم بمراده منها، فقال بعضهم من فرق المبتدعة: (أ) ألَّفَ الله محمداً فبعثه نبياً، (ل) لام الله المشركين، (م) مقت الله معاوية أهذا كلام؟! إن هؤلاء سفهاء، ولابد أن يؤدبوا تأديباً بالغاً يردعهم وأمثالهم.

وقال بعضهم: {الر} لو جمعت لأصبحت حروفاً وكلمات مفيدة.

ونسب هذا القول إلى ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه.

يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى {الر} وقال: {حم} وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {نْ} فمن يجمع هذه؟ إنها تجتمع في اسم (الرحمن) فقال ابن عباس: تجتمع كلمات.

ولكن الصحيح أن الله تبارك وتعالى أعلم بمراده من هذه الحروف، وأن معناها ومقصودها كأن الخطاب يقول: يا أيها العرب! يا فصحاء الدنيا! يا من تطاول على الناس بالفصاحة! تعالوا هذه الحروف، وهذه المادة، وهذا الخام، ركبوا مثل هذا القرآن.

وهذا تحد -ولله المثل الأعلى- مثل أن يأتي البناء المجيد الذي يجيد بناء القصور فيقول لك: هذا الأسمنت، وهذا الحديد، وهذا الماء فابن كما بنينا، وهذا تحد للعرب.

يقول أحد المفكرين: الكلام مثل التراب، نحن نصنع من التراب الفخار والأواني الفخارية التي نأكل فيها، والله خلق من هذا التراب الإنسان.

فالله إذا تكلم بكلامه كان كلامه كفضل الإنسان على التراب وعلى الأواني الفخارية هذه.

يقول الله للعرب: هذه الحروف أمام أيديكم فابنوا مثل القرآن، وانسجوا على منوال القرآن ولذلك اعترفوا جميعاً، فهذا الوليد بن المغيرة، الذي كان شيخ مكة، وكان يسمى ريحانة قريش، لكنه أصبح ريحانة مقطوفة في النار، وثمرته في الجنة: خالد بن الوليد بن المغيرة {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} خالد بن الوليد الذي خاض مائة معركة في سبيل الله:

تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها

وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها

وما مررت بأصقاع مررت بها الله أكبر يدوي في نواحيها

ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها

فهذا خالد بن الوليد، وكان أبوه أبلغ بليغ في الناس، قال له كفار مكة: قل كلمة، قل إنه سحر.

قال: لا أستطيع، أنا سمعت القرآن فليس بسحر.

قالوا: قل هو شعر.

قال: لا أستطيع، قالوا: قل هو كهانة.

قال: لا أستطيع، لكن سوف أذهب وأستمع.

فلما ذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال: يا محمد! قال: نعم.

قال: اسمع مني كلمات.

قال: أسمع.

قال: ما سمعنا برجل من العرب أدخل على قومه من الخيبة والعار مثل ما أدخلت على قريش -انظر إلى السفاهة والجنون والحمق- إن كنت تريد زوجة اخترنا لك أجمل فتاة في مكة وزوجناك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك، وإن كنت تريد مالاً أعطيناك ثم أخذ ينسب ويحسب من هذا الكلام.

فقال له صلى الله عليه وسلم: انتهيت؟ وفي لفظ أنه ناداه: يا أبا هشام! انتهيت؟ قال: نعم.

قال: اسمع فلما انتهى انطلق عليه الصلاة والسلام يقذف عليه بالقذائف من سورة فصلت {حم} حتى بلغ قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:١٣] فقام على ركبه ووضع يده على فم المصطفى عليه الصلاة والسلام، وقال: أسألك بالله والرحم اسكت.

فسكت عليه الصلاة والسلام، فقام فنفض رداءه وأتى إلى كفار قريش وهم ينتظرونه، وإذا بوجهه قد تغير، فيقول كفار قريش: جاءكم الوليد بوجه غير الوجه الذي ذهب به.

فلما جلس قالوا: ماذا سمعت؟ قال: سمعت السحر ووالله ما هو بسحر، وسمعت الكهانة وليس بكهانة، وعرفت الشعر وليس بشعر، والله إن أعلاه لمغدق، وإن أسفله لمورق، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه يعلو ولا يعلى عليه.

فحلفوا له وأقسموا ألا تقوم حتى تقول في القرآن شيئاً تقدحه فيه، فسكت ثم التفت فبسر بوجهه وقطب جبينه، ثم عبس بوجهه، ثم أرسل عينيه شزراً، ثم فكر ثم قال: {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:٢٤] يقول: سوف أوافقكم وأقول إنه سحر.

قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى -اسمع إلى الرد-: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر:١١] يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: اتركني وهذا المارد الفاجر، خلقته فرداً فقيراً مسكيناً والآن يتعلى عليَّ! {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً} [المدثر:١١ - ١٢] كان من أغنى الناس، كان الذهب يقسم عنده بالفئوس! {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً} [المدثر:١٢ - ١٣] كان عنده عشرة أبناء خالد وتسعة معه، وكان إذا أتى إلى المحافل جعل خمسة عن يمينه وخمسة عن يساره، وألبسهم الديباج والحرير، ونصب التيجان من الذهب على رءوسهم، قال الله: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً} [المدثر:١٢ - ١٣]-يشهدون معه النوادي- {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} [المدثر:١٤ - ١٧] صعوداً: جبل في جنهم -نعوذ بالله من جهنم- يصعد الصاعد فيه أربعين وقيل سبعين خريفاً، فإذا انتهى بتعبه وأصبح في أعلاه انزلق إلى أسفله، ثم يصعد هكذا، أبد الدهر.

{سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:١٧ - ٢٦] ثم تكلم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن النار نعوذ بالله من النار.

<<  <  ج:
ص:  >  >>