وهذا الحديث الذي معنا اعترض عليه أبو الحسن الدارقطني حافظ الدنيا، وعبقري الحديث في المعمورة، ولا بأس أن نورد اعتراضه بسهولة، يقول: إن الأعمش عنعن فيه - الأعمش: سليمان بن مهران - إذا قال عن فمعناه مدلس، كأنه سمع ولم يسمع، ورد الحفاظ على الدارقطني في هذا الحديث وقالوا: هو صحيح، ويكفي أن مسلماً ارتضاه، وأن الناس قبلوا كتاب مسلم، فهو صحيح.
وهذا الكلام نفاذ أخاذ حار، تعرف كلام الرسول صلى الله عليه وسلم من كلام غيره، تجد الأعرابي في الصحراء يسمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من الراوي فيميز بين حديثه وحديث الناس؛ لأن حديثه صلى الله عليه وسلم أغلى من الدر، أو كأنه جواهر تتصبب على الآذان، أو كأنه قطر الغمام صافياً مصفى من السماء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه:{أوتيت جوامع الكلم} قال النووي: هي أن يجمع له الله الكلمات الطويلة في جمل صغيرة، وعند الدارقطني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أوتيت جوامع الكلم وخواتمه وفواتحه} وعند أبي يعلى الموصلي عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أوتيت جوامع الكلم وفواتحه وخواتمه، واختصر لي الكلام اختصاراً} عليه الصلاة والسلام.
فهو أفصح من نطق بالضاد، وأنتم تعرفون أنه ما تعلم في شبابه عليه الصلاة والسلام، فقد عاش حتى بلغ الأربعين من عمره ثم قال له الله تعالى: اخرج إلى البشرية فتكلم إليهم، اخرج إلى المعمورة فحدثهم بلا إله إلا الله، فخرج يحدثهم فإذا هو أفصح خطيب وأكبر قاض وأفتى مفتٍ وأبلغ بليغ، ما تلعثم في حياته كلها في كلمة واحدة، وما أراد أن يقول حرفاً فقال الحرف الذي بعده، يبقى في بيته حتى يجتمع الناس، فيقوم فيلقي خطبة تكاد الجدران أن تتباكى، وكذلك الصحابة إذا ألقاها صلى الله عليه وسلم عليهم، ويأتي عليه الصلاة والسلام فيسأله السائلون فيفتيهم في اللحظة؛ لأن كلامه وحي:{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}[النجم:٥].