للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من قصص البخلاء]

والبخلاء قصصهم عجيبة وغريبة، منهم أبو الأسود الدؤلي النحوي كان بخيلاً بالطعام، يرفع عنه القلم إذا رأى ضيفاً، وإذا قدمت مائدته امرأته رفع عنه القلم قالوا: فإذا رأى ضيفاً احمر وجهه، واختلفت عيناه، وأصبح يضرب سوطاً من بعيد "خطر ممنوع الاقتراب" فكان إذا قدمت امرأته طعاماً له قال: أغلقي الباب، فقدمت يوماً عشاءه ونسيت الباب، فاقتحم ضيف فقير مسكين، دخل عليه وجلس معه على المائدة، فجلس يأكل، وغضب أبو الأسود الدؤلي وقامت قيامته، فلما تعشى الضيف قام أبو الأسود إلى حبل، فشد الضيف يده اليمنى برجله اليسرى، وقال: والله لا أتركك في الليل تؤذي المسلمين، فهو يعتبر العشاء هذا إيذاءً للمسلمين، فحبسه حتى صلاة الفجر، ذكره أهل العلم فيمن ذكروا.

ومنهم أحد أهل العلم رجل من أعيان المدينة كان سخياً بالمال بخيلاً بالطعام، وإذا أكلت عنده تغديت أو تعشيت استحل دمك، يقول أهل العلم: كان يستحل دم من يتعشى عنده، وكان والياً على المدينة، وهذا ذكره الخطيب البغدادي، وذكره الجاحظ وأهل الأدب، فدخل عليه ستة، ومعهم أشعب الطماع الذي يتبع الأعراس والولائم والحفلات ليأكل دائماً، وأشعب هذا يأكل أكل أربعة، فدخل مع الستة، فقال الستة بعضهم لبعض: انتبهوا لوالي المدينة لا تأكلوا عنده شيئاً، نريد غرضنا فقط، فوالله إن أكلتم لا يلبي طلبكم، ويستحل دماءكم، فجلسوا وكان غداء الوالي مازال على النار، وكان جدياً يطبخ، فجلس قال: تغديتم يريد أن يستأمن قالوا: الحمد لله، والله لا نريد شيئاً، قال: ما وراء الله مذهب، كفى بالله حسيباً من أقسم بالله بررناه، لو أنكم تركتم القسم لتغديتم معي، قالوا: لا والله تغدينا، قال: الحمد لله، فلما أتى بالغداء قال: تفضل يا أشعب -وكان يظن أنه سيقول: لا والله تغديت- قال: نعم فقام فأخذ جنب الجدي فمسحه، ثم جنبه الآخر فمسحه، ثم أقبل على الرأس فشذرمه، ووصل إلى اليد، فغضب هذا الوالي حتى أصبح يخالط في عقله، فلما انتهى قال: قبل أن تذهب يا أشعب -يريد أن يوقعه- عندنا أناس في سجن المدينة نريد أن تدخل معهم في رمضان تعلمهم القرآن لأنك تحفظ كتاب الله، والله! لتدخلن في رمضان فتصلي بهم كل رمضان، يقول أشعب: لا.

وأعاهدك بالله عز وجل ألا آكل لك طعاماً بعد اليوم -وهذا مما ذكروه في هذا الباب- فأطلقه.

قوله صلى الله عليه وسلم: {ومنعاً} المنع: البخل.

ومن أقسام البخل قسم عظيم خطير، وهو البخل بالعلم والفائدة؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:١٥٩] يبخل بالدعوة وبالموعظة، يبخل بالتوجيه والتربية وهو عالم ومتعلم وعنده خير، فهو من صف البخلاء الذين لعنهم الله؛ لأن الله يقول في بني إسرائيل حين بخلوا بالعلم: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:٣٧] فأبخل الناس بالفائدة اليهود ومن سار على منوالهم من هذه الأمة.

الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من البخل ومن الجبن، وقد قسم في يوم واحد سبعة آلاف ناقة وأربعة وعشرين ألف رأس من الغنم، ثم لحقه أعراب الناس يطاردونه يريدون مالاً، فنشب كساؤه بشجرة، فقال صلى الله عليه وسلم: {خلوا كسائي أيها الناس؛ فو الذي نفسي بيده! لو كان لي عدد عضاة تهامة غنماً وإبلاً لأنفقتها؛ ثم لا تجدونني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً} عليه الصلاة والسلام.

<<  <  ج:
ص:  >  >>