[شجاعة الصحابة والصالحين]
في حرب الردة وقف أبو بكر الصديق على المنبر يعلن الحرب على الردة، فيعترض بعض الصحابة عليه فيقول: [[والذي نفسي بيده لو منعوني عقالاً أو عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم عليها]] ثم جند الجنود، وقال في رواية أخرى: [[والذي نفسي بيده لو أتت الكلاب فأخذتني بأعقابي -لأنهم يقولون اترك الصحابة يحرسون المدينة - ما خلفت جيشاً عن الغزوة في سبيل الله]] فهذا هو الرأي؛ أن تقدم رأيك وتثبت عليه بشجاعة وبتفان أيضاً.
وهذا ابن تيمية في مصاولة الباطل؛ فإنه بلغ مبلغاً عظيماً، كان يخطب وحوله السيوف تلمع والسياط والجنود، وكان يتكلم بشجاعة، فيقول له السلطان: كأنك تريد ملكاً يا ابن تيمية قال: "ما ملكك ولا ملك آبائك عندي يساوي فلساً، إني أريد جنة عرضها السماوات والأرض".
وكان يتكلم أمام الناس بقوة ويعلن الحق ويبينه لأن الله أخذ الميثاق: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:١٨٧] جعلوه قراطيس أي: جعلوا هذا القرآن قراطيس في الجيوب يخرج وقت الحاجة ويتلف وقت الحاجة، فلابد أن تعرض فكرتك بأدب ووضوح وأن تطالب بحقك ونصرة الإسلام، ولا بد أن تطالب بالحق أن يكون حقاً والباطل باطلاً، مثل مطالبة أهل الباطل بالباطل.
أيضاً: الثوري؛ فإنه كان ينصح ويقف للظلمة في وجوههم، وينكر عليهم وقد قال لـ أبي جعفر -وهو ظالم-: اتق الله يا أبا جعفر! ودخل طاوس على أبي جعفر، فقال له: ناولني الدواة يا طاوس قال: لا والله إن كنت تكتب باطلاً فلا أعينك على الباطل، وإن كنت تكتب حقاً فلست بخادم لك.
وأتى الخليفة المهدي فدخل مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام، فقام له الناس، إلا ابن أبي ذئب المحدث، فقال: لماذا لم تقم يا ابن أبي ذئب؟ قال: أردت أن أقوم لك، فتذكرت قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:٦] فتركت القيام لذلك اليوم، فقال له: اجلس، فوالله ما تركت شعرة في رأسي إلا قامت.
ومنهم أيضاً: الأوزاعي؛ فإنه أنكر على عبد الله بن علي عم أبي جعفر، فيما قتل في دمشق وما فعله بالمسلمين والسيوف تقطر حوله دماً، حتى يقول بعض الوزراء: كنت أجمع ثيابي خوفاً من دم الأوزاعي، وكان الأوزاعي ينصحه ويزجره ويحذره مما فعل بصوت يجلجل كصوت الأسد.
ومنهم: سيد قطب رحمه الله.
فإنه بلغ أمام حكومة ضباط التحرير أو التدمير مبلغاً عظيماً، وأعلن التمرد عليهم، وأنهم يحكمون بغير ما أنزل الله، وأرسل قذيفة معالم في الطريق ذاك الكتاب الذي وزع تصويراً في موسكو بعد سنة من كتابته، حتى حذرت موسكو حكومة الضباط بأن ينتبهوا لهذا المجرم -أي: سيد قطب - فأخذوه وسجنوه عشر سنوات لا يرى النور، يقول: والله إن الشمس كانت تدخل علينا من ثقب من السجن، وكنا نتداول في السجن على الشمس بالدور ما رأى الشمس عشر سنوات.
ومع ذلك يقوم الليل ويكتب في ظلال القرآن، ويرسله من السجن كتاب كأنه يكتبه بدمه.
جاءه الوزراء والضباط وجاءته الحاشية وقالوا له: اكتب لنا ورقة تنازل واعتذار.
قال: إن أصبعي التي أعلنت الوحدانية لله في كل يوم خمس مرات، ترفض أن تكتب كلمة استجداء، إن كنت حبست بباطل فأنا أكبر من أن أستجدي الباطل، وإن كنت حبست بحق فأنا أصغر من أن أعترض على الحق.
قالوا: إنه سيقتلك.
قال: لا إله إلا الله، أنا أبحث منذ أربعين سنة عن هذا.
يقول: أنا أبحث عن القتل.
فماذا فعل به؟ لقد شنقه أعداء الله.
وقد حرر سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى رسالة لـ جمال عبد الناصر قال فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى الرئيس جمال عبد الناصر: السلام على من اتبع الهدى، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:٩٣] ثم أتى الشيخ بالآيات والأحاديث، وقد تلوتها في ترجمة الشيخ، وهي محفوظة في ملف الشيخ وفي ذكرياته التي كتبها طلابه عنه، وهي من أعظم البرقيات.
ولما أتوا بـ سيد إلى المشنقة تبسم، حتى يقول أحد الشعراء في سيد:
يا شهيداً رفع الله به جبهة الحق على طول المدى
سوف تبقى في الحنايا علماً قائداً للجيل رمزاً للفدا
ما بكينا أنت قد علمتنا بسمة المؤمن في وجه الردى
رحمه الله وجمعنا به.
ومنهم الأستاذ العلامة: أبو الأعلى المودودي -رحمه الله وأثابه- سجن تسع سنوات، سجنه خان وما قبل الشفاعات فيه إلا بشرط أن يكتب ورقة اعتذار، قال: ولو كتب لي قدر كفه ورقة اعتذار لقبلت منه، فقال: أنا أكبر من أن أكتب له ورقة اعتذار، فقالوا له: إذا كتبتها تخرج من السجن.
فقال: لا أخرج.
يقول فيه العطار:
نفسي فدتك أبا الأعلى وهل بقيت نفسي لأفديك من أهل ومن صحب
أما استحى السجن من شيخ ومفرقه نور لغير طلاب الحق لم يشب
ثم مات رحمه الله، ودوى العالم الإسلامي بموته، مع أنه يموت في اليوم عشرات العلماء والمفكرين، والأدباء، لكن الذين يحملون الحق بجدارة قليل، والذين يقدمون التضحيات قليل، والذين يصطفيهم الله عزوجل مثل ابن تيمية وأحمد والعز بن عبد السلام وسيد وأبو الأعلى المودودي هم أيضاً قليل.