تقول حليمة: وخرج مرة من المرات مع أخيه من الرضاعة يرعى البهم.
وراعي البهم هذا سوف يرعى الأمم، في ثلاثة أرباع الدنيا، هذا الراعي دخل قواده فصلوا وسبحوا في قرطبة والبرتغال والسند والهند، هذا الراعي أخرج الأمة الضعيفة المسلوبة المظلومة من الجزيرة، فصلت في ضفاف دجلة والفرات، وأذنت في صنعاء وكابل.
قالت: فلما خرج يرعى البهم أتاه رجلان، فبطحاه أرضاً وشقا صدره، وأخذا علقة من قلبه!
من هم الرجلان؟
أرسل الله ملكين اثنين، فأخذا طستاً من ذهب مملوءاً حكمة وعلماً، فأتوا إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام، فأضجعوه على ظهره وشقوا صدره الكريم.
ولذلك يقول بعض المفسرين في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}[الشرح:١] أي: يوم شققنا صدرك، ثم وسعناه فكان واسعاً حكيماً حليماً رحيماً، فلما شقا صدره، أخذا العلقة السوداء- وما منا إلا وفيه علقة سوداء، يجتمع فيها الحسد والحقد والخيانة والغل فقطعوها، وأخرجوها، ثم غسلوا قلبه بماء زمزم، ثم ملئوا -بإذن الله- قلبه حكمةً وإيماناً، ثم ردوا صدره وخاطوه؛ حتى يقول أنس كنت أرى أثر الشق والرسول عليه الصلاة والسلام في الستين من عمره.
ثم أقاموه، وأتى وهو خائف إلى أمه من الرضاعة حليمة، وأخبرها الخبر، فردته إلى مكة.
وعاد -وهو صبي- يتدرج في الكرامة والعزة والرفعة، ما سجد لصنم، ولا شرب خمراً، ولا خان، ولا سرق، ولا كذب، ولا غش، وفي صحيح مسلم:{كان يمرُّ في وديان مكة، فيراه الحجر فيقول الحجر: السلام عليك يا رسول الله! ويراه الشجر فيقول الشجر: السلام عليك يا رسول الله} قبل النبوة، يسلم عليه الشجر والحجر، فيفزع ويخاف وينظر فلا يرى شيئاً.
وينشأ صلى الله عليه وسلم يتيماً، صبوراً فقيراً محتسباً، لم يقرأ ولم يكتب، ويبلغ الخامسة والعشرين من عمره، فيكون مضرب المثل في مكة حياءً وأمانة ووقاراً وعفافاً، ولكن بعد أن نبئ خونوه، وقالوا: ساحر، وقالوا: شاعر، وقالوا: كاهن، ورموه في عرضه، والله يقول:{وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ}[التكوير:٢٢] ما باله بالأمس أمين صادق وفي مخلص، واليوم أصبح مجنوناً كذاباً خائناً ساحراً؟ بالأمس كان مضرب المثل فيكم واليوم أصبح عدواً لكم؟!
سافر في الخامسة والعشرين من عمره، فنزل في بصرى في الشام فجاءت غمامة تظلله من الشمس وهو مع النوق والإبل، وهناك شجرة، بجانب صومعة بحيرى، يقول عنها أهل العلم من أهل الكتاب: لا يجلس تحتها إلا نبي، فترك الشجر كله وجلس تحتها، حكمة بالغة، وقدرة نافذة.