[وصف الجنة وأنهارها]
{أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة:٢٥] جنات جمع جنة، وما في الدنيا من الجنة إلا الأسماء:
لواحد منهم بدا أساوره أضاءت الدنيا له أو ظفره
لهم من الحرير أعلى ملبس إستبرق فيها وخضر السندس
صفوفهم عشرون بعد المائة أما ثمانون فمن ذي الأمة
الشجرة الواحدة كما في صحيح مسلم، {يطوف الراكب المجد بها مائة عام لا يقطعها}.
وفي الجنة أربعة أنهار ثجاجة، نسأل الله أن يرينا تلك الأنهار، ولا يحرمنا الشرب من تلك الأنهار، وأن يدخلنا برحمته وهو الواحد الغفار لا بعملنا؛ فإننا مسيئون، بعيدون عن أعمال تلك الدار.
نهر من ماء غير آسِنٍ لم يتغير، بل هو ثجاج يثج حلاوةً وخيراً وبراً، ونهر من عسل مصفى لا تشوبه شائبة، ونهر من لبن لم يخالطه شيء، ونهر من خمر لذة للشاربين ليس فيها صداع ولا ذهاب للعقل كخمر الدنيا، قال أهل العلم: هذه الأنهار الأربعة تطوف في الجنة جميعاً، ولكل إنسان في الجنة أنهار خاصة، وهذه الأنهار العامة، أما الأنهار الخاصة فهي لكل إنسان، وأدنى أهل الجنة منزلة يملك -كما في صحيح مسلم - عشرة أمثال الدنيا من ذهب وفضة وقصور وبساتين، ففي الجنة له عشرة أمثال الدنيا: {ولموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها}.
أما شجرها فيتدلى، إن كنت قائماً ارتفع الغصن حتى تناله وأنت قائم: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة:٢٣] وإن كنت جالساً أتاك الغصن وأنت جالس، وإذا اضطجعت أتاك الغصن وأنت مضطجع، لا تهتم، ولا تحزن، ولا تغتم، ولا تنصب، ولا تجوع، ولا يأتيك مما يأتي الناس في الدنيا من الغائط والبول والأذى والقذى، هل فيها شمس؟ قال بعض أهل العلم: أما جوها فكالجو الصحو الصافي قبل طلوع الشمس في الفجر، فهذا الجو الزاهي البهي هو جو الجنة.
أما لحمها فهو طير مشوي مما يشتهيه الناس، وفواكهها متعددة الأنواع، أما أسرتها فحدث ولا حرج، للإنسان المسلم المؤمن اثنتان وسبعون حورية، وقال بعض أهل العلم في الأحاديث: زوجتان، وكل حورية وجارية يرى مخ ساقها من وراء العظم.
فاعمل لدار غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
والطير تهفو على الأغصان عاكفة تسبح الله جهراً في نواحيها
ولذلك لا نعيم في الدنيا أبداً بالمقارنة مع تلك، وهذه الحقائق لا بد أن تفهم اليوم، قال رجل للحسن البصري: أشكو إليك بطني، قال: ماذا فعل بطنك؟
قال: إن شبعت كظني، وإن جعت آلمني، قال: التمس لك أرضاً غير هذه الأرض، أي: الجنة، وقال الحسن البصري: [[فضح الموت الدنيا، فلم يدع لذي لب فرحاً، لقد بقي المؤمن مهموماً مغموماً، ولا فرج له إلا دخول الجنة]].
ولذلك رئي الصالحون في الجنة، ولا بأس أن نذكر بعض ذلك، ذكر ابن كثير أن الإمام أحمد رئي على كرسي من زبرجد، فقالوا: بم نلت هذا؟
فقال: بآية من القرآن، ورئي مالك كذلك، فيقول الذهبي: على ناقة من نور، وهو يطير بها في سماء الجنة، ولكن الشهداء أعظم وأعظم، وأحسن وأحسن.
فيا أخي: اجعل لك منزلاً هناك، وإذا أتاك الفقر والعوز ولم تجد سعة في هذه الدنيا فاعلم أن السعة هناك، واعلم أن ما فاتك في الدنيا سهل، بيت الدنيا يخرب، وزوجة الدنيا تفارق، ومال الدنيا يذهب، وصحة الدنيا بعدها السقم، فو الله لا راحة فيها، والمغرور والمخذول والذي لا يملك مسكة من عقل هو الذي قدمها على الآخرة نعوذ بالله من الخذلان.
قال: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة:٢٥] كيف تجري؟
قالوا: تجري من تحت قصورها، ولأنهار الجنة حفيف في الآذان عجيب، ويخرج أهل الجنة كما حقق ابن القيم إلى سوق من أسواقها، فتثور رياح تهب بكثبان المسك، فتدخل في ثياب أهل الجنة، فيعودون إلى زوجاتهم فيقولن: والله لقد ازددتم حسناً إلى حسنكم ونعيماً إلى نعيمكم، ويلتقي أهل الجنة يوم الجمعة يوم المزيد، فيرون الله الواحد الأحد رؤية حقيقة، وهي أعظم المنازل، نسأل الله ألا يحرمنا تلك النظرة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٣ - ٢٣] فأول ما توضع الكراسي للأنبياء والرسل، ثم للشهداء، ثم للصالحين، ثم يجلس الناس على كثبان المسك والزبرجد، ويتجلى الله لهم ويكلمهم ويكلمونه.
فهناك قم طرباً بحبك منشداً إذ سوف تكشف دوننا الأستار
فنسأل الله أن يرينا وجهه، وأن يذيقنا لذة النظر إلى وجهه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وفي الجنة زيارة الصالحين، فتزور محمداً صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وحمزة، وأضرابهم، وأشرابهم، فاجعل لنفسك منزلاً هناك، لأنك إن لم تفعل ذلك في الدنيا، فإننا نخاف أن يحال بيننا وبين تلك المنازل نسأل الله العافية.