للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[دروس وفوائد من سيرة عمر]

هذه هي مسيرة عمر رضي الله عنه.

قال: سفيان الثوري بلغني أن عمر كان ينشد:

لا يغرنك ليلٌ ساكنٌ قد يوافي بالمسيئات السحر

وكان ينشد هذا البيت كثيراً، يقول: لا يغرك الليل والهدوء، ولا تأمن انقلاب الأمور، يقول: ربما تنام الليل هادئاً، ولكن تأتيك مفاجآت يأتي بها الله، ومثله قول بشار:

يا راقد الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا

قال الحسن البصري رضي الله عنه وأرضاه: قال عمر: [[والله إني لو شئت لكنت ألينكم طعاماً, وأرقكم عيشاً، إني والله ما أجهل عن كراكر-الكراكر: مقدمة الذبيحة- وعن صلاء وصنائب وصلائق، ولكني أخشى أن أعرض على الله عز وجل، فيقال لي: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها]].

كان عمر -أيها الأبرار- موسوعة في العدل والرحمة موسوعة في الإيمان والتواضع، وكان تاريخاً مستقلاً، ومن أراد أن يتزود من ترجمة عمر فليراجع مناقب عمر لـ ابن الجوزي، فقد كان عمر يضبط بالشورى فوضى الديمقراطية، ويضرب بدرة العدل كذبة الشيوعية، ويهذب بالإنصاف طيش الراديكالية، فهو يبني من الشرع دولةً متميزة, نجومها أهل الحل والعقد، يديرها العلماء لا أوباش الائتلاف, ومنظروها أهل الريادة وحفظ الله لا أبناء صناديق الاقتراع.

قرأت عن هتلر أنه كان من تعاليمه إذا اجتمع بوزرائه وحاشيته، من الأدب أن يلحظوه بعيونهم وقت الحديث, ولا ينحرف أحد بعينه عن وجهه وإن فعل ذلك فقد عرض نفسه للإعدام، فأي تعاليم هذه التعاليم؟

وأي ضحكٍ على الشعوب؟!

كلب الخليفة قد عطس جمهور حشد شمتوه

شكر الوفا بعيونه فتقدموا واستأذنوه

طلبوا الكلام تفضلاً بتواضعٍ كي يشكروه

رفض الكلام بذيله متوعداً لو ينبحوه

الكلب مد يمينه من حسنه إذ قبلوه

أوصاهم فتعهدوا أن يحفظوه ويسمعوه

شكراً لكلب خليفة ربى مكارمه أبوه

أيها الأبرار نخلص من سيرة عمر بأمور:

أولاً: أننا لا نريد من سيرة عمر -كما قلت سالفاً- تاريخ الأموات ولا التعداد والأوصاف، بل نريد من سيرة عمر الدروس والتربية والحياة والعدل والصدق، والتضحية والبذل والرحمة، ونريد من سيرة عمر أن يتجدد في الجيل أناس يشكلون مسيرةً لـ عمر، وصدقه مع الله، وشجاعته في الحق، لكن بحكمة عمر , وبنفاذ بصيرة عمر، وبهدوء عمر.

ثانياً: أن هذا الإسلام معطاء، وأن الذي يقول: (لم يعد للعظماء مجال) كاذبٌ مفترٍ على الله، بل سوف تتكرر نماذج ونماذج من الدعاة والحكماء والعلماء والأدباء ما بقيت هذه الأمة، وما بقيت رسالتها في الأرض.

ثالثاً: من أراد أن يتزود من هذه السيرة العطرة، فليتزود من منبع عمر رضي الله عنه الذي نبع وشرب منه، وهو الكتاب والسنة.

رابعاً: عندنا عظماء وليس عند غيرنا عظماء، عظماؤنا نتفاخر بهم أنهم عظماء، فهم عظماء عمل، وعظماء صدق، ولهم من بركة العمل وجهود التضحية ما نباري بهم الآخرين، والآخرون عندنا أقزام، مدائح وهراء وإطراء؛ لكن لا عمل ولا قداسة ولا طهر.

أيها الأحباب أنتهي من هذه المحاضرة شاكراً لكم حضوركم، وأنا أعلم أنكم حضرتم حباً في عمر لا حباً في عائض، وأنكم حضرتم من أجل صاحبكم الكبير ورجلكم الملهم، والعبقري الفاتح، فرضي الله عنه وأرضاه، وعندي تنبيهان:

الأول: جزيرتنا وبلادنا ليست مستعدة إلا لفكر عمر، وعقيدة الرسول صلى الله عليه وسلم، وليست مراهنة على فكرٍ علماني كافر، وليست مستعدة أن تفتح أبوابها لهذا الفكر الدخيل المعارض للإسلام, حتى والله لو شدخت الرءوس بالدبابات, وفتكت الأكتاف بالمجنزرات، فلن تبقى إلا ملة الرسول عليه الصلاة والسلام.

الثاني: يا شباب الإسلام! يا حملة التوحيد! يا أبطال العقيدة! السكينة السكينة، والهدوء الهدوء، ومراجعة العلماء والدعاة، وإيصال النصيحة بحكمة، لا بطيشٍ ولا بتعجل، وليس معنى الحكمة تكفين الكلمة ودسها في أكفان! لا، بل الحكمة الصادقة الهادئة التي توصل كلمة الحق، وتغير بها المنكر، في غير طيش ولا سفه وانزعاج، وأئمتكم الآن هم العلماء، أعلنوا أنهم أمامكم، وأنهم يريدون أن يسمعوا منكم وتسمعوا منهم, لتجددوا تلك المسيرة الخالدة، ولتقولوا للعالم:

نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثلما فعلوا

السلام على عمر يوم ولد، والسلام عليه يوم أسلم، والسلام عليه يوم بويع بالخلافة، والسلام عليه يوم قتل شهيداً، طلب من الله أن يُقتل شهيداً فقُتل شهيداً، لكن أين؟

في المحراب، ومتى؟

في صلاة الفجر، وإلى أين؟

إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض، وفي أي ساعة؟

في ساعة الصباح يوم يتنفس الصباح على إطلالة يومٍ جديد، فيقدم فيه عمر على الله ليكافئه على عمله، طعن وحمل إلى البيت، وقال لابنه وقد وضع رأسه على مخدة: [[انزعها وضع رأسي على التراب، علَّ الله أن يرحمني]] وقال: أدخلوا عليَّ الأطفال، فأدخلوا عليه الأطفال وقبلهم، وقال: أدخلوا الشباب، فدخل عليه الشباب, ودمه يثعب, وجراحه تسيل، ونفسه تقعقع؛ وإذا بشابٍ قد أسبل إزاره, فقال: [[يا بن أخي! ارفع إزارك، فإنه أتقى لربك, وأنقى لثوبك]].

قال بعض المفكرين العصريين: أمير المؤمنين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في ساعة الموت، وهذا إزار، فكيف بالمنكرات التي يجب على الإنسان وهو في سعادة الحياة أن ينهى عنها كالربا، والفساد المستشري، والحجاب الذي يكاد يتهتك، والغناء الذي يقتلع البيوت، وانتشار الرذيلة، وسكوت أهل الفضل إلا من رحم ربك، وإيذاء الصالحين في وقت قول الحق، فهذا عمر يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لكن على مسألة أصبحنا نراها من جزئيات الجزئيات، ثم ذهب عمر إلى الله، فقال علي: [[والله ما أريد أن ألقى الله بعمل رجلٍ إلا بعملك]] وأثنت عليه الأمة شرقاً وغرباً، وذهب إلى الله سعيداً.

كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعينٍ لم يفض ماؤها عذر

تردى ثياب الموت حمراً فما دجا لها الليل إلا وهي من سندسٍ خضر

فتى كلما فاضت عيون قبيلة دماً ضحكت عنه الأحاديث والذكر

ثوى طاهر الأردان لم تبق بقعة غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر

اللهم اجمعنا بـ عمر، وأجلسنا مع عمر، اللهم ارفع رسالة وعبقرية وعدل عمر على جماجمنا وأرواحنا وأكتافنا يا رب العالمين.

وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

<<  <  ج:
ص:  >  >>