[نشأته وطلبه للعلم]
نشأ الشيخ على رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام، ورضع ثدي النبوة على لا إله إلا الله، وأشرقت نفسه على رسالة الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب مجدد التوحيد في الجزيرة وفي كثير من أنحاء العالم الإسلامي، فأخذ العلم أولاً على يد المشيخة، فحفظ كتاب الله عز وجل، وأتاه عمى العينين فازداد قلبه بصيرة، وما ضره عمى عينيه بل زاد حفظاً وورعاً وعلماً يقول أحد الشعراء العرب وقد عمي صغيراً:
عميت صغيراً والذكاء من العمى فجئت همام القلب جم المشاعر
وأنزلت في قلبي سواد محاجري فما خفت في الدنيا سواد المخاطر
يقول: السواد الذي في عيني أنزلته في قلبي
واستفاد الشيخ من العمى أموراً أربعةً:
أولها: الأجر والمثوبة من الله إن شاء الله ففي صحيح البخاري في الحديث القدسي أن الله يقول: {من ابتليته بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة} والمقصود بالحبيبتين: العينين، وكانوا يقولون لـ يزيد بن هارون الواسطي -وهو سيد المحدثين، وقد سئل عنه ابن تيمية فقال: هو أشهر من أن يذكر، وأكبر من أن يتكلم فيه- قيل له: أين العينان الجميلتان؟ قال: أذهبهما -والله- بكاء الأسحار.
ثانيها: الذكاء المفرط فالشيخ حافظ العصر في علم الحديث، واسأله في حديث عند الستة أو عند غيرهم؛ فستجده في الغالب مذياعاً فصيحاً يستحضر سنده ومن تكلم فيه ورجاله وشرحه.
فأتوني من أهل العيون المبصرة من يكون كالشيخ في علمه
وابن اللبون إذا ما شد في قرنٍ لم يستطع صولة البزل القناعيس
عذرت البزل إن هي قارعتني فما بالي وبال ابن اللبون
ثالثها: استفاد الشيخ من عمى عينيه إغفاله مباهج الدنيا وفتنتها وزينتها، فزهد وجمع قلبه على الدار الآخرة، وعلى التواضع والاستكانة لله، ولم يتشتت قلبه.
رابعها: استفاد من مركب النقص في العينين أن ألح على نفسه وحطم نفسه بالجد والمثابرة حتى أصبح من العلماء، وهذه قضية معروفة، ومن قرأ منكم كتاب" دع القلق وابدأ الحياة " لـ دايل كارنيجي وهو يتحدث عن ماذا فعل من أصيبوا بعاهات في الدنيا، وكيف أنتجوا؛ أخبرك أن مكتشف علم كذا وكذا كان أصم، ومكتشف علم كذا كان أعمى، ولك أن تراجع الفصل الثالث عشر في هذا الكتاب.
واستمر الشيخ يطلب العلم بعد أن فقد عينيه، ولكن قلبه يزداد نوراً، وعوضه الله بذكاء في القلب يقول أحد الشعراء:
رأيتك أعمى العين صار ضياؤها بقلبك حتى صرت فجراً مبلجاً
فصار سواد العين في القلب فاغتدى ينظم من نور الشريعة منهجاً
وقيل لـ ابن عباس -عالم الدنيا- وقد عمي: أحسن الله عزاءك في عينيك.
إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي فؤادي وقلبي منهما نور
عقلي ذكي وقلبي غير ذي عوج وفي فمي صارم كالسيف مشهور
وقد تقلى الشيخ علومه على يد مشايخ فضلاء، ومن أبرز مشايخه -حفظه الله ورعاه- الشيخ/ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ؛ من الأسرة العامرة الموجهة الخيرة، والشيخ/ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ قاضي الرياض، والشيخ/ سعد بن حمد بن عتيق قاضي الرياض؛ العز بن عبد السلام في هذا العصر، والشيخ/ حمد بن فارس وكيل بيت المال في الرياض، والشيخ/ سعد وقاص البخاري؛ من علماء مكة أخذ عنه التجويد، وسماحة الشيخ العظيم الجليل/ محمد بن إبراهيم آل الشيخ؛ المفتي الأجل، لازمه عشر سنوات، واستفاد منه فوائد باهرة.
هؤلاء مشيخة الشيخ، وتستمر الحال بالشيخ، فلا يفتر ليل نهار يبحث عن العلم ويطلبه من مظانه، وفي حياته درس على أن الإنسان بإمكانه مع الفقر والعمى والعوز -إذا صدق مع الله- أن يحصل علماً، وأن يستفيد إذا صدق قلبه {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:٦٩].
يقول الشوكاني عالم اليمن: كنت في أثناء الطلب متهاوناً، فقرأت أبياتاً للشريف الرضى يمدح فيها الهمة العالية، فزادتني همة يقول الشريف الرضى متحدثاً عن نفسه:
أقسمت أن أوردها مرةً وقاحةً تحت غلامٍ وقاح
إما فتىً نال المنى فاشتفى أو فارس زار الردى فاستراح
وقد قلت في بيتين على بيتي الشريف الرضى:
إذا سألت الله في كل ما أملته نلت المنى والفلاح
بهمةٍ تخرج ماء الصفا وعزمةٍ ما شابها قول آح
ومما يذكر في الهمم والإصرار والجد والمثابرة: أن عنترة بن شداد كان يغلب الفرسان، وكان يبطح الأبطال، وكان يذبح الكماة فقيل له: كيف تصبر؟ كيف تكون مقداماً؟ فقال للقائل: أعطني إصبعك فأعطاه إصبعه، فأخذها في فمه، وأعطاه عنترة إصبعه فوضعها في فمه، ثم قال: عض إصبعي وأعض إصبعك، والصابر منا من يثبت.
فعض هذا وعض هذا، فقال ذلك: آه، فانطلقت إصبع عنترة، فقال: بهذا غلبت الناس.
قال الله: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:١٠٤] وقال: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:١٤٠].
سقيناهم كأساً سقونا بمثلها ولكننا كنا على الموت أصبرا
والذي يريد أن يحصِّل عليه أن يقرأ سيرة الشيخ وأنا أعلم أن من السلف الصالح من هو أعلم بكثير، لكن علينا أن ننظر إلى رجل حي بين أظهرنا يمثل العلم في القمة، وقد حصل عليه مع فقر وعوز، والكتب ليست متوفرة، والطباعة كانت ضعيفة، ووسائل التنقل ما كانت بذاك، والرجل أعمى؛ ومع ذلك حصَّل وحصَّل حتى وصل إلى ما وصل إليه فأين الشباب؟ مع أن العلم متوفر، والطباعة سهلة، والمجلدات كثيرة، والجامعات مفتوحة، والأساتذة كثر، والعلماء متوفرون، وفي الثقافة غزارة فأين من يطلب العلم؟
خرج القفال الشاشي، وفي الطريق أراد أن يطلب العلم وعمره أربعين سنة فنحن نطلب العلم في الأربعين وفي الخمسين وفي الستين، وعلينا ألا نصدِّق كانت ولا ديكارت الذين قالوا: لا.
العلم في الصغر فحسب يقول البخاري في الصحيح في كتاب العلم: وتعلم أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام في الكبر فنتعلم ولو كنا كباراً.
ذهب القفال وعمره أربعون، فقال: كيف أطلب العلم؟ ومتى أحفظ؟ ومتى أفهم؟ ومتى أعلم الناس؟ فرجع، فمر بصاحب سانية يسوق على البقر، وكان هذا الحبل يقطع الصخر من كثرة ما مر، فقال:
اطلب ولا تضجر من مطلبٍ فآفة الطالب أن يضجرا
أما ترى الحبل بطول المدى على صليب الصخر قد أثرا
واستمر يطلب العلم وأصبح إماماً شافعياً من جهابذة الدنيا.
فلا بد من الطموح والهمة العالية، واستعذاب المنايا، والمخاطرة بالنفس؛ حتى تصل إلى المطلوب وإلى الهدف السامي.
حفظ الشيخ -جزاه الله خيراً- القرآن، وتعلم كتب العقيدة على مذهب السلف الصالح، وهو الذي يمثل الآن من العلماء الوجهة الصحيحة لمذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات وفي مجمل وتفاصيل المعتقد، وأكب الشيخ على كتب شيخ الإسلام/ ابن تيمية وابن القيم وفيهما النفع الكثير، وهي تغذي طالب العلم غذاءً هائلاً، وهي تختصر المسافات، وفيها بركة من رجلين خطيرين عبقريين أثريا المكتبة الإسلامية والثقافة المؤمنة.
وكان الشيخ يعتمد على كتب الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب، وينثرها في محاضراته وخطبه وكلامه، ويدعو إلى المنهج السديد.