وثيقةٌ معجزةٌ من كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم
عندي في هذا الدرس وثيقة أريد أن أشرحها لكم، وهي وثيقة من محمد عليه الصلاة والسلام، كلمات معدودات ما فكر فيها ولا تأمل، إنما قالها فأعجزت أهل العلم، فهي تستحق أن تشرح في مجلدات، ويصنف لها تصنيف خاص يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: {إن الله حرم عليكم ثلاثاً، وكره لكم ثلاثاً: حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال} وهذه الألفاظ درر وجوهر!
بالله لفظك هذا سال من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسلا
أم المعاني اللواتي قد أتيت بها أرى بها الدر والياقوت متصلا
لو ذاقها مدنف قامت حشاسته ولو رآها غريبٌ داره لسلا
وفي الحديث قضايا:
أولها: التحريم والتحليل للشارع الحكيم.
الثانية: بلاغة الحديث، وفيه من أمور البلاغة أربعة أمور:
اللف والنشر، والإيجاز، والسجع، والعدد لا يقتضي الحصر.
القضية الثالثة: عقوق الأمهات، وفيها قضايا.
وما معنى: وأد البنات، ومنعاً وهات، و (كره)؟
وما هي القضايا في قيل وقال، وكلام أهل العلم وشراح الحديث فيها؟
وما المقصود بالسؤال؟
ومتى يكون صرف المال إضاعة؟ ومتى يكون حفظاً؟ ومسائل في هذا الباب ثم ننتهي.
أولاً: يقول عليه الصلاة والسلام: {إن الله حرم عليكم ثلاثاً وكره لكم ثلاثاً} الحديث، هذا لف، وقد سبق في بعض المحاضرات أن هذا يسمى لفاً عند أهل البلاغة.
واللف: أن تأتي بالمعاني وتجمعها، والنشر: أن تشرحها، ويسميها أهل الإعلام من المتأخرين: الموجز والتفصيل، يقول: كان هذا هو الموجز وإليكم الأنباء بالتفصيل.
فالرسول عليه الصلاة والسلام استخدم طريقة بلاغية بديعة تسمى: اللف والنشر، وفي القرآن يقول الله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:١ - ٣] انتهى اللف، ويأتي النشر فيما بعد.
والتحريم والتحليل ليس لأحد إلا للشارع الحكيم، وليس لأحد من البشر.
فأي زعيم أو موجه أو منظر أو عالم أو فقيه أو محدث لا يملك حق التشريع في الدين، والعلماء يُحتج لأقوالهم ولا يحتج بأقوالهم، والتحليل والتحريم لله عز وجل ولرسوله عليه الصلاة والسلام: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:١١٦] فإذا رأيت رجلاً يحلل أو يحرم من غير دليل شرعي، فهو معتوه أو أحمق أو زنديق؛ لأن من الزنادقة من أتى يستهزئ بالدين، فحلل وحرم بلا برهان، فخرج بهذا التحليل والتحريم من الملة.