[ضرورة الموازنة بين الحسنات والسيئات]
ويقول ابن تيمية ونقلها ابن القيم في مدارج السالكين -أنا أروي بالمعنى، لكن بعض الألفاظ أتذكرها- يقول: أما موسى عليه السلام فإنه أتى بالألواح فيها كلام الله عز وجل فألقاها، لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لامه وعاتبه، وقال: {وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ} [الأعراف:١٥٠] فألقاها في الأرض، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف:١٥٠] فهذا خطأ آخر، لأن أخاه كان نبياً مثله، ومع ذلك جره بلحيته أمام الناس، ومع ذلك عفا الله عنه، قال ابن القيم:
وإذا الحبيب أتى بذنبٍ واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
وفي حديث رواه البيهقي بسندٍ يحسنه الكثير من أهل العلم قال: {أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم} قال ابن القيم: "إلا الحدود"، وهذه اللفظة تثبت في بعض الروايات من لفظه عليه الصلاة والسلام، فإن الناس متساوون في الحدود، لكن مقصودي في المسائل التي ليس فيها حدود، أن صاحب العثرة تقال عثرته من أهل الهيئات وهم الذين لهم قدم صدق في الإسلام والدعوة، وفي الخير والكرم والصدارة، وفي التوجيه والتأثير.
وأضرب على ذلك مثلاً: أستاذٌ يدرس مجموعة من الطلاب، وفيهم طالبٌ دينٌ خيرٌ وقورٌ شهم محافظ مواظب متأدب وغاب يوماً من الأيام، فعلى هذا الأستاذ أن يغفر له غيابه وزلته، لأنه من ذوي الهيئات، وله من الحسنات ما تشفع له، لكن طالب آخر متخلفٌ منحرف عن الجادة متلاعب مشاغب غاب يوماً من الأيام، فأيُّ حسنات تشفع له؟ ما هو إلا عثرات في عثرات، فالمجتمع مثل ذلك، لذلك أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم.
فوجوه الناس وأهل الخير والفضل، إذا بدرت منهم بادرة فعلينا أن نتحملها جميعاً، وعلينا أن ننظر إلى سجل حسناتهم وإلى دواوين كرمهم ومنازلهم عند الله وخلقه، يقول بشار بن برد:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
يقول: إذا أصبحت تعاتب الناس دوماً وتلومهم فمن الذي تصاحبه منهم، ومن هو الأخ الذي ترافقه؟!
ويقول في بيته الثاني:
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
يقول: لابد أن تجد ماءً معكراً، لكن اشرب، وما حيلة المضطر إلا ركوبها، وصاحب أخاك وتحمل منه الزلة.
كان ابن المبارك إذا ذكر له أصحابه قال: من مثل فلان فيه كذا وكذا من المحاسن ويسكت عن المساوئ، وما من أحدٍ من المسلمين إلا له حسنة، فاذكره بالحسنة في المجالس.
وليتنا -أيها الإخوة الكرام- نتذكر حسنات الناس، فما أعلم أحداً من المسلمين مهما قصر إلا له حسنات، ولو لم يكن من حسناته إلا أنه يصلي، أو أنه يحب الله ورسوله.
المصطفى المعصوم عليه الصلاة والسلام يؤتى له بشارب خمرٍ وقد تكرر جلده أكثر من مرة، فيقول أحد الصحابة للشارب: {أخزاه الله! ما أكثر ما يؤتى به! قال صلى الله عليه وسلم: لا تقل ذلك لا تكن عوناً للشيطان على أخيك، فوالذي نفسي بيده ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله} فأثبت له أصل الحب وهي حسنة، فلماذا لا نذكر للناس محاسنهم، فإنك لا تجد أحداً شريراً مائة بالمائة، إلا رجل كفر بالله، أو تعدى على حدود الله أو أعلن الفجور أو خلع ثوب الحياء، أو عادى الأولياء والأخيار والصالحين ونبذ الإسلام ظهرياً.