[قصة علي بن المأمون]
ومن القصص عن أهل القرون السابقة القرن العباسي أن علي بن المأمون والمأمون هذا هو الخليفة العباسي الكبير- كان خليفةً من أعلم الخلفاء، لكن علمه ممزوج بالاعتزال والبدعة ما كان علمه سلفياً صافياً، ولذلك اعترض عليه شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: إن الله سيسأل المأمون عما أدخل من الفلسفة في بلاد المسلمين، وهو الذي تزعم القول بخلق القرآن، ونشر هذا المبدأ، وجعل هناك تحالفاً بدعياً مع أحمد بن أبي دؤاد وبشر ومحمد بن جهم وأمثالهم، والشاهد أن ابنه علياً كان أميراً من الأمراء، وكان إذا أصبح الصباح خرج في شرفة القصر -في بغداد دار السلام - وقصور بني العباس كانت تلمع مع إشعاع الشمس من جودتها، وسموها، وسمقها، وورد أنهم كانوا يموهونها بماء الفضة؛ فإذا رأتها الشمس لمعت لمعاناً عجيباً، وبهرجاً غريباً، فكان يشرف على الشرفة -شرفة القصر- وينظر إلى الناس في أسواق بغداد ذاهبين وآيبين من دجلة إلى داخل بغداد، ولفت نظره رجلٌ مسكينٌ فقيرٌ، كان يعمل حمالاً يحمل أكياساً ومتاعاً للناس بأجرة، فإذا أتت صلاة الضحى توضأ من ماء دجلة، ثم صلى أربع ركعات، ثم يعود ليعمل إلى قرب الظهر، فإذا اقترب الظهر ذهب فنام؛ فإذا سمع أذان الظهر قام فتوضأ، ثم ذهب إلى المسجد فصلى، فإذا صلى أتى فأخذ قطعةً من الخبز اشتراها من السوق وشيئاً من البقل، فأتى فغسل البقل في نهر دجلة قريباً من قصر الأمير، وأكل هذه القطعة مع هذا البقل، ثم يقوم ويصلى إلى العصر، ثم يعمل بعد العصر، ثم يأخذ شيئاً ويذهب إلى بيته فأخذ يلمحه طيلة الأيام؛ وما تغير في سيرته، ولا في برنامجه شيء، فلفت نظره! وقال: أهو سعيد أم شقي؟ وما هي نفسيته؟ وأراد أن يتساءل معه؛ فأرسل بعض خدمه إليه
وقال له: الأمير يدعوك.
قال: ما لي وللأمير أنا ما دخلت في حياتي على أمير من الأمراء، ولا أريد شيئاً من الدنيا، أي: ليس عندي من المشاكل، ولا من الطلبات، ولا من الأمور التي أعلمها شيء، وما تكلمت في أمير، وما أظن أنني أعرف أحداً منهم.
قال: إنه يريدك لأمر.
قال: آتيه غداً.
قال: إنه يريدك اليوم فأتى بهيئته، وأسماله البالية، وبثيابه.
وهذه القصة في التاريخ، ومن ضمن من ذكرها صاحب" رجال من التاريخ "، وصاحب" قصص من التاريخ " الشيخ علي الطنطاوي، وهي موجودة؛ لكنه بسطها بأسلوب أدبي، فهو إذا كتب في هذا المجال أجاد وأفاد، فهو صاحب قلمٍ سيال، وقلمه أحسن من لسانه.
فالمقصود أنهم دخلوا بهذا الفقير المسكين على الأمير؛ فأجلسه عنده، فلما رآه قال له الأمير: أأنت سعيد؟ قال: الحمد لله أنا في سعادة ما بعدها سعادة.
قال: أتريد شيئاً من الدنيا؟ قال: لا والله ما أريد شيئاً.
قال: فإني أعرض عليك شيئاً من هذا المال.
قال: أسألك بالله عز وجل إلا تركتني وحالي.
قال: فكن عندنا في قصرنا، قال: لا لا أريد الشقاء، أريد السعادة فيما أنا فيه.
قال: ما هو عملك؟ وما هو دخلك، وأهلك؟ قال: أنا لي زوجةٌ وأخت؛ زوجة مقعدة وأخت عمياء، وليس لي من الدخل إلا ما أقوته في اليوم أذهب في الصباح، فأعمل إلى الظهر، ثم أتغدى بهذه الكسرة التي أجدها من العمل، بعد أن أتوضأ وأصلي الضحى، ثم أنام، ثم أصلي الظهر، وبعدها أصلي إلى العصر، ثم أعمل قليلاً لآخذ إفطاراً لزوجتي ولأختي؛ لأنهما تصومان الدهر.
قال: وهل تخافُ شيئاً؟ قال: لا والله.
قال: هل عليك دينٌ؟ قال: ما عرفت الدَّين.
قال: أعندك مشكلةٌ ترفعها إليَّ؟ قال: ما شاكلت أحداً في حياتي.
قال: ما تريد؟ قال: أن تتركني.
قال: فتركه فنزل.
فلما نزل أخذ الأمير ينظر إليه متعجباً من هذا الصنيع، وفي آخر المطاف أتى هذا الأمير وكان عاقلاً حازماً، فاستدعى بعض المقربين من إخوانه وعشيرته، وقال: إنني سوف أذهب إلى مكان الله أعلم به، فإن تخلفت فأخبروا أبي أنني ذهبت إلى أرض، وأنني بخيرٍ إن شاء الله، فخلع ثيابه في غداةٍ من الأيام، وأخذ خاتماً بيده، وترك أمواله، وأوصى بكل شيءٍ من ذويه، ثم ركب.
قالوا: فنزل واسط وهي بلدٌ في الشمال، فأخذ يعمل، وغير مهنته حمالاً وهذه في ترجمة علي بن المأمون الخليفة العباسي.
وكان يصلي الليل، ويصوم النهار ويقرأ القرآن، وأخذ المأمون يقلب الدنيا ظهراً لبطن عنه، فما وجده، وما ظن أنه سوف يكون حمالاً، يُمر به ولا يعرفه أبداً.
فلما حضرته الوفاة ذهب إلى الذي يعمل عنده، فقال: أنا ابن المأمون الخليفة، فإذا أنا مت فخذ هذا الخاتم، وهذه الدراهم فاشترِ لي بها كفناً، فإنني قد وجدت السعادة في الحياة، وأوصل هذا الخاتم لأهلي.
فلما توفي غسل وكفن من دراهمه وما ترك تركةً، ولا دنياً فقد كان عابداً زاهداً مستقيماً فأتي المأمون بخاتمه بعد أن توفي؛ فبكى وذهب إلى قبره ليزوره، وقال: وجدت السعادة.
وهذه قصةٌ من قصصٍ سوف تمر معنا إن شاء الله، نقلت في التاريخ والسير، ونستعرض الآن أسباب السعادة، وما هي الأمور التي تقرب السعادة للمؤمن؟