ومنهم أيضاً عقبة بن أبي معيط، كان الجار الثاني للرسول عليه الصلاة والسلام، جمع الناس في وليمة، ودعاهم جميعاً، فحضر صلى الله عليه وسلم وقال: والله لا آكل طعامك حتى تؤمن بالله، فتشهد عقبة، فبلغ ذلك أبي بن خلف الجمحي، وكان صديقاً له، فقال: ما شيء بلغني عنك؟ قال: لا شيء، دخل الرجل منزلي فأبى أن يأكل طعامي حتى أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له، قال أبي: وجهي من وجهك حرام، إن لقيت محمداً فلم تطأ عنقه وتبصق في وجهه وتلطم عينه، فلما رأى عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل به ذلك، فأنزل الله فيه سورة الفرقان {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإنسانِ خَذُولاً}[الفرقان:٢٧ - ٢٩].
هذا عقبة حضر يوم بدر، وكان في صف المشركين فوقع في الأسارى، وقع أسيراً في يد المسلمين، فمر صلى الله عليه وسلم وهو محجل بالحديد -في يديه سلسلة من حديد- وفي أقدامه سلسلة من حديد وهو كالجمل، وهو من أشجع الناس، فرآه صلى الله عليه وسلم بين الأسرى، فقال صلى الله عليه وسلم: من يقتل هذا؟ قال علي بن أبي طالب: أنا يا رسول الله، فتقدم علي بن أبي طالب بالسيف المسلول، فيقول عقبة بن أبي معيط: يا محمد! لمن الصبية؟
قال صلى الله عليه وسلم: إلى النار، فتقدم علي بن أبي طالب فقتله؛ لأنه آذى الإسلام وآذى رسول الله صلى الله عليه وسلم إيذاءً بالغاً، وهو الذي بصق في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وآذاه في مكة واعترض على المسلمين وعذب كثيراً من المؤمنين، وكذلك قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه النضر بن الحارث، ثم ذهب صلى الله عليه وسلم فنزل في الأثيل وهي قرية قريبة من بدر ومعه الجيش، فأتت أخت عقبة تقول: دلوني على الرسول صلى الله عليه وسلم فدلوها فوقفت بين يديه، قالت: عندي أبيات أريد أن أنشدها بين يديك، قال صلى الله عليه وسلم: قولي، قالت:
أمحمد يا نسل كل كريمة من قومه والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما منّ الفتى وهو المغيظ المحنق
ثم أخذت تنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم:{والذي نفسي بيده، لو سمعت هذا قبل أن أقتله ما قتلته} لكن إلى النار؛ لأنه عدو لله وللمؤمنين.
واستمر صلى الله عليه وسلم يصبر ويحتسب ويدفع بالتي هي أحسن حتى بلَّغ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى دينه مبلغ الليل والنهار.