[خوف النبي صلى الله عليه وسلم من ربه عند قراءته القرآن]
وروى ابن جرير الطبري وابن مردويه عنه صلى الله عليه وسلم: {أنه مرّ به بلال بن رباح -المؤذن, داعي السماء, الذي أخرج من أوضار الوثنية إلى نور الإسلام- قبل صلاة الفجر, فوجد الرسول صلى الله عليه وسلم يبكي, فقال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي ماذا يبكيك؟ قال: آيات أنزلت عليّ ويل لمن قرأها ولم يتدبرها، ثم تلى عليه الصلاة والسلام: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:١٩٠ - ١٩١]}.
والذي يتلو مثل هذه الآيات ولا يتدبر ولا يتفكر؛ فكأن قلبه طبع عليه إلا ما شاء الله, والطبع يصيب القلوب بالمعاصي وبالغفلة وبالشهوة, فنسأل الذي بيده مفاتيح القلوب أن يفتح على قلوبنا وقلوبكم, ولذلك يقول جل ذكره مخاطباً الصحابة ومن سار على منهجهم إلى يوم الدين -يقول بعض الصحابة: ما بين نزول هذه الآيات المعاتبة وبين إسلامنا إلا أربع سنوات-: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:١٦ - ١٧].
فكما يحيي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الأرض بالماء والغيث من السماء فإنا نطمع منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يحيي قلوبنا بالذكر فقد جفت ويبست وخمدت, فإنه الذي قال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [الأنعام:٩٥].
ولذلك إذا نسي القلب موعود الله تبارك وتعالى, والعرض عليه, والقبر, وتلك الوقفات الهائلة الفظيعة أصبح قلباً فاجراً قاسياً بعيداً عن الله.
روى الإمام ابن كثير في البداية والنهاية المجلد الثاني عشر: عن السلطان نور الدين محمود وهو من سلاطين الإسلام الذين كانوا يقومون الليل ويصومون النهار, ذكر ابن تيمية هذا السلطان فقال: رحم الله تلك العظام؛ لأن تقوى الله يوزعها على البشر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, لا تختص بغني ولا فقير, ولا كبير ولا صغير, ولا أحمر ولا أسود, وإنما يوزعها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنه يعلم القلوب التي تستحق الهداية.
استعرض هذا السلطان فترة من فترات الذهول والغفلة في جيشه في دمشق وعمل مهرجاناً ضخماً حضره أمراؤه ووزراؤه وقواده, وحضره أهل دمشق في مقام بهيج وفي حفل مرعب, ولما اكتمل هذا الحفل دخل أحد علماء الإسلام اسمه ابن الواسطي، دخل ببردته وعصاه ووقف أمام السلطان ثم قال: اسمع أيها السلطان لموعود سلطان السموات والأرض؟
فتوقف الناس وخمد المهرجان وانتظروا ماذا يقول هذا الواعظ, فرفع صوته وقال لهذا السلطان وهو على سرير الملك:
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إن قيل نور الدين جاء مسلماً فاحذر بأن تأتي وما لك نور
حرمت كاسات المدام تعففاً وعليك كاسات الحرام تدور
ثم يقول:
هذا بلا ذنب يشيب لهوله يعني: الوليد يخاف يوم القيامة وتشيب ناصيته لهول اليوم, يقول:
هذا بلا ذنب يشيب لهوله كيف المصر على الذنوب دهور
فسقط السلطان من البكاء مغشياً عليه في الأرض, ورش بالماء، واستفاق وهو يقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:٢٧ - ٢٨].
وأصبح هذا الموقف له توبة إلى الله وعودة إلى الحي القيوم.