[الثانية لا تبث خبر زوجها لفظاعة أخباره]
{قالت الثانية: زوجي لا أبث خبره} تقول: أستره لكنها ما سترته، وهذه مقدمة، تقول: أنا أستر زوجي لو أخبركم بزوجي كان أمراً عجيباً {لا أبث خبره، إن أذكره أذكر عجره وبجره} تقول: اتركوني لا تفتحوا طريقاً لي على زوجي فأتكلم بكلام تصم منه الآذان، أنا لا أريد أن أذكره لو ذكرته أتيت عليه، فاتركوني وخبره وقولها: عجره وبجره، العجر في الأصل التورم في الظهر، والبجر: التورم بالبطن، وعلي بن أبي طالب ذكر ذلك في خطبة صحيحة عنه، وقف على المنبر بعد معركة الجمل، قال: [[إلى الله أشكو عجري وبجري]] بعد أن قتل طلحة وقتل الزبير وقتل كثير من الصحابة، ووقعوا في كثير من المسائل حزن علي رضي الله عنه وأتته هموم في صدره، قال على المنبر وهو حزين يتمنى لقاء الله: [[إلى الله أشكو عجري وبجري]] والمعنى: همومي وأحزاني، وما في نفسي، فتقول هذه المرأة: أنا إذا تكلمت نثرت عليكم من أخباره وأعلامه وأسراره ما الله به عليم، فاتركوا الأمر سراً ولا تسألوني عن شيء، إني إن أذكره أذكر عجره وبجره، وانتهت إلى هذا الكلام واللبيب بالإشارة يفهم، ويقولون: هذا من التكنية والتعريض، كما فعل حسان في شعره فكان يعرض بالكفار تعريضا، وقال الحطيئة يهجو الزبرقان بن بدر:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
محتمل عند العرب يقولون: اترك المكارم لا ترحل لبغيتها قد أتت المكارم إليك، وأنت الطاعم تطعم غيرك وتكسوه، فذهب الزبرقان عرف أن الرجل هجاه هجاء ما بعده هجاء، فذهب إلى عمر قال: يا أمير المؤمنين! انقذني من الحطيئة فقد تكلم علي؟ قال: ماذا قال لك؟ قال: يقول لي:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
عمر فصيح، عربي قح، يعرف الكتاب والسنة والشعر، لكنه قال: ما هجاك، يريد عمر أن يصلح قال: يا أمير المؤمنين! لقد هجاني.
قال: لا.
ما هجاك يقول: أنت الطاعم وأنت الكاسي وكلنا مطعوم مكسو من الله الواحد الأحد؛ لكن قبل هذا التخريج قال: لا.
نتحاكم إلى غيرك، قال: إلى من؟ قال: إلى من يعرف الشعر قال: تعالوا بـ حسان فأتوا بـ حسان فتلوا عليه البيت:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
قال عمر: ما رأيك في البيت؟ قال: ما هجاه ولا سبه؛ لكن سلح عليه فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: اليوم ننصفه منك، فأنزله في قعر بئرٍ وقصته طويلة وقد أبكى بقصيدة له عمر، كان يصيح الحطيئة مثل الثعلب من أقصى البئر، بئر ليس فيه إلا قليل من الماء، أنزله عمر بحبل فكان يصيح مثل الثعلب من أقصى البئر ويبكي، وأبناؤه في نجد، يقول لـ عمر وعمر يسمع كلامه:
ماذا تقول لأفراخٍ بذي مرخٍ زغب الحواصل لا ماء ولا شجرُ
يقول: ماذا تقول لله يوم تركت أطفالي في نجد وأنا في البئر في المدينة
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمةٍ فاصفح عليك سلام الله يا عمر
أنت الأمين الذي من بعد صاحبه ألقت إليك مقاليد النهى البشرُ
لم يؤثروك بها إذ قدموك لها لكن لأنفسهم كانت بها الأثر
فدمعت عينا عمر قال: أشتري منك عرض المسلمين ألا تسبهم، خذ ألف دينار، حتى لا يتعرض لأعراضهم، وأعطاه ألف دينار فلما توفى عمر عاد الحطيئة يهجو المسلمين ويقول: لو علم عمر لقطع لساني، الشاهد أن هذا هو التعريض.