[اختلاف الأجوبة بحسب الحال والمخاطب]
أولاً: يعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاب بأجوبة مختلفة، وقد مر معنا بعض الأسئلة التي عرضت عليه صلى الله عليه وسلم، والسؤال هو السؤال، ولكن الجواب تغير منه صلى الله عليه وسلم، فما هو سر هذه المسألة؟.
ثانياً: لماذا كان يسأل صلى الله عليه وسلم من بعض الناس عن فضائل الأعمال، وعن بعض المعاصي، فيجيب صلى الله عليه وسلم بإجابات مختلفة؟
والقاعدة في هذا: أنه صلى الله عليه وسلم كان يجيب على اختلاف الأشخاص والأحوال؛ لأنه معصوم عليه الصلاة والسلام، لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، أما غيره فإنه لا يستطيع ذلك مهما بلغ من العلم، فبعض أهل العلم يأتيه إنسان، فيقول: دلني على أفضل عمل، فيقول: أدلك على الجهاد في سبيل الله، وهذا السائل من أخوف الناس، يموت قبل الموت؛ لأن بعض الناس يموت قبل الموت مرات، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليست إجابته هكذا، كان صلى الله عليه وسلم يعرف استعدادات الناس وما يستوعبونه، وما يمكن أن يقوموا به، وأن يوفوه حقه، فيخبرهم على قدر حاجتهم، وعلى ما يستطيعون له، ويقدرون عليه.
أتاه أبو ذر رضي الله عنه، وأبو ذر فيه حدة رضي الله عنه قال: أوصني يا رسول الله! لو قال له صلى الله عليه وسلم عليك بالصدقة، فأي مال عند أبي ذر حتى يتصدق؟ أو إنفاق في سبيل الله، أو الجهاد؟ لكن قال له: {لا تغضب، قال: أوصني، قال: لا تغضب، قال: أوصني، قال: لا تغضب} فعرف صلى الله عليه وسلم أن هذا الرجل دواؤه وعلاجه عدم الغضب؛ لأن الغضب مركوز فيه، ووجد فيه رضي الله عنه حتى فيما بعد لم يستطع أن يسيطر عليه، لكنه غيَّر ما استطاع منه رضي الله عنه وأرضاه.
وروى عبد الله بن بشر كما في سنن الترمذي أن رجلاً قال: {يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ، فأخبرني بشيء أتثبت به} هل يقول عليك بالجهاد في سبيل الله؟ ماذا يفعل هذا عمره ثمانون سنة؟ قال: {لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} يذكر الله وهو راقد على الفراش، لا يصلي، ولا يصوم، ولا ينفق، ولا شيء من تلك النوافل، بل يسبح فقط، يحرك لسانه لأن أقوى شيء فيه لسانه.
وأتاه ابن غيلان الثقفي وكان من أشجع الناس, كان جثة هامدة قوية، فأتاه فلما دخل عليه أسلم، فأحيا الله هذه الجثة بالإيمان، وأصبح حياً يقظان، فقال: دلني يا رسول الله على أفضل عمل، قال: عليك بالجهاد في سبيل الله؛ لأن هذا إذا حضر معركة نفع الله به.
ويأتي الآخر، فيخبره صلى الله عليه وسلم بما يمكن، لكن هذا لا يتهيأ لكل الناس، ولا لأهل العلم مهما بلغوا، وإنما يتهيأ للرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول ابن حجر هنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل نفس هذا السؤال في حديث ابن مسعود، وفي حديث أبي ذر، وفي حديث أبي هريرة، فتغيرت الإجابات.
فهنا يقول صلى الله عليه وسلم حين سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: {إيمان بالله ورسوله} وعند ابن مسعود سئل: أي العمل أفضل؟ فقال: {الصلاة في أول وقتها} وفي حديث أبي ذر سئل أي العمل أفضل؟ فقال: {الجهاد في سبيل الله}.
المقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر بهذا راعى حال المخاطبين، فإنه قد يوجد في هذا المجلس الذي تكلم فيه صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث لفيف من الناس لم يقوَ إيمانهم، فلو قال: الصلاة في أول وقتها، ما كان حاجتهم إلى ذكر الصلاة أول الإجابة، بتلك الحاجة التي تحوجهم إلى أن يتعلموا الإيمان، فعرض صلى الله عليه وسلم الإيمان، أما ابن مسعود فعالم من علماء الصحابة.
وهل إذا سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل، وهو مؤمن من أخمص قدميه إلى شغاف رأسه هل يقول له صلى الله عليه وسلم: إيمانك بالله ورسوله وهو مؤمن، لا.
فقال: {الصلاة في أول وقتها} لأن لسان الحال يقول لـ ابن مسعود: لأنك إمام وعالم ومعتبر، فعليك بالصلاة في أول وقتها.
ولذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، صاحب هذا السؤال أدرك أمراء يؤخرون الصلاة عن أوقاتها، فأفاده هذا الحديث، فكان يصلي في بيته الصلاة في أول وقتها، ثم ينزل إليهم في مساجدهم، فيصلي معهم، وصرح له صلى الله عليه وسلم بأن قال- وهذا من حديث ابن مسعود وحذيفة - {يا رسول إذا أدركت قوماً يميتون الصلاة عن وقتها -يؤخرونها حتى أصبحت ميتة، ولا أصبح لها أثر، ولا قبول، ولا محبة، ولا رفعة- فماذا أفعل؟ قال صلى الله عليه وسلم: صل الصلاة على وقتها، ثم صلِّ معهم} وفي رواية أبي ذر: {ولا تقل إني صليت} لكن صل في بيتك، ثم تعال فصل معهم، فكان يفعلها الصحابة لما أتى بنو أمية، فأماتوا الصلاة، وأخرجوها عن وقتها، حتى يقول ابن تيمية: إن من سبب زلزلة ما كانوا عليه من سلطان، تأخير الصلاة عن أوقاتها، لما أخروها أخرهم الله عز وجل.
فالمقصود: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يغير الإجابات بحسب أحوال السائلين.
وفي الحديث أيضاً: ترتيب الأعمال على الإيمان؛ لأنه وجد في المجلس من لم يستعد أولاً بالإيمان, أو لفيف من المسلمين الذين هم حديثو عهد بالإسلام، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه لا عمل، ولا قبول، ولا حج إلا بالإيمان.