وأما المكروه: فهو ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، هكذا عُرِّف.
والرسول عليه الصلاة والسلام ملك زمام البلاغة بيده، فانظر كيف نوع عليه الصلاة والسلام! فإنه قال:{إن الله حرم} ثم قال: {وكره لكم} فلو قال صلى الله عليه وسلم: إن الله حرم، ثم قال: إن الله حرَّم، كان في الأسلوب تكرار ينبو عنه السمع، ولذلك تجده صلى الله عليه وسلم يقول مثلاً:{إن الله كتب عليكم خمس صلوات، وفرض عليكم زكاة} فلم يقل: كتب صلاة وكتب زكاة، فهذا مكرر تمجه الأسماع، فعدل عليه الصلاة والسلام عن التحريم في الثانيه فقال:{وكره لكم}
أمر آخر: إن المكروهات الثلاث في قوله: {وكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال} أقل خطورة من الثلاث الأولى التي ذكرها رسولنا عليه الصلاة والسلام.
ثم قال:{عليكم} والمخاطب به الأمة الإسلامية، أمة الاستجابة التي اتبعته عليه الصلاة والسلام، فإن المسلمين هم المخاطبون بفروع الشريعة، والكافر لا يخاطب بفروع الشريعة في قول لأهل العلم، ولو أنه ينكل ويعذب على تركه فروع الشريعة، ولكن المقصود بـ:{عليكم} أي: على الأمة، والمقصود بهم الذين حضروا هذا الخطاب منه عليه الصلاة والسلام والذين لم يحضروا بحيث كانوا أحياءً وكانوا غيباً عن مجلسه، أو كانوا في أصلاب أمهاتهم، كمثلي ومثلك الآن، فإنا أتينا بعد أربعة عشر قرناً نتبعه ونحبه ونقتدي به عليه الصلاة والسلام، فهو يخبرنا بالخبر، وما زالت ألفاظه وأوامره ونواهيه فينا حية.
ثم قوله:{إن الله حرم عليكم: عقوق الأمهات} لم يقل الآباء والأمهات لأمرين:
الأمر الأول: عظم حق الأمهات، فإن حقهن عظيم، ولذلك قال بعض العلماء استنباطاً كالحافظ وغيره: للأم ثلاثة حقوق، وللأب حق واحد من الآداب والوقار والعطاء، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح لما سأله الرجل:{من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أبوك} فجعل لها ثلاثة حقوق وجعل للأب حقاً واحداً، فهي بالنسبة للأب ثلاثة أرباع الحقوق، فأتى صلى الله عليه وسلم بحق الأمهات؛ لأنهن أعظم حقاً وأعظم منزلة.
الأمر الثاني: اتساق العبارة في السجع الجميل غير المتكلف، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يقف على التاء، فقال:{عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات} فوقف على التاء، ولو أتى بالآباء -عليه الصلاة والسلام- ما وقف على سجعة، وهذا محله علم البلاغة.