[قصة سلميان عليه السلام والفلاح]
ذكر ابن القيم في كتاب الفوائد أن سليمان عليه السلام، قال: "تعلمنا مما تعلم الناس ومما لم يتعلموا فما وجدنا كتقوى الله".
وقال عون بن عبد الله لزملائه وهو يودعهم: أوصيكم بوصية: عليكم بتقوى الله فإن المتقي لا وحشة عليه.
ولذلك فإن القليل من العمل الصالح يعادل جبالاً من جبال ونعيم الدنيا لو كانت في ميزان الحسنات.
ونذكر هنا قصة سليمان عليه السلام مع الفلاح: كان سليمان عليه السلام كان عنده مُلْك الدنيا خيولها، ووحوشها، وطيورها فسخرها الله له، عمل مهرجاناً ذات يوم فاستعرض الدنيا، وخيولها، ووحوشها، وطيورها، ثم مرت به الخيل فأشغلته عن صلاة العصر، قال بعض العلماء: فأخذ السيف فقتل الخيل جميعاً، وتصدق بلحومها؛ لأن لحوم الخيل يجوز أكلها.
وقالوا: بل مسح مسحاً -مر بيده- على أكتافها وأذنابها وأعتقها أو تصدق بها في سبيل الله، فعوضه الله عزوجل -لما علم حرصه على صلاة العصر- بالريح بدل الخيل، فسخرها له، فكان إذا أراد أن ينتقل من مكان إلى مكان قال للريح: يا ريح! أريد تلك الأرض فانقليني إليها، ومهما بلغت الصناعات أو التقدم العلمي فإنه لا يصل إلى هذا المستوى، فكان يقول للريح: تعالي.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:١٢] أي: أن مسيرها في الصباح تقطع مسافة شهر، وإذا عادت فإنها تعود مسيرة شهر.
ومرة من المرات أراد بلاد الهند وكان مقيماً في فلسطين، فقال للريح: أريد الهند، فأتت: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:٣٦] معنى رخاءً حيث أصاب، أي: أنه إذا أراد أرضاً فلا تنزله بسرعة فتحطمه، بل تقلل من سرعتها (رخاء) رويداً رويداً (حيث أصاب) حيث أراد.
وقال أهل العلم في قوله: (حيث أصاب) حيث أراد، فهو إذا أراد هذه البقعة فلا تنزله في البقعة الأخرى، فإذا أراد الطائف فلا تنزله في جدة، وإذا أراد الرياض فلا تنزله في الدمام.
(حيث أصاب) أي: حيث أراد بنيته، فهي ريح بكماء صماء، لكن الله سخرها له.
فقال: أريد الهند، فنقلته ومعه حاشيته وأمراؤه ووزراؤه، فلما أصبح بين الأرض والسماء، قالوا: لاح له ثوبه، وكان عليه ثوبٌ جميل فالتفت إليه، فأرادت نفسه أن تعجبه، فأوحى الله إليه: يا سليمان! وعزتي وجلالي لو أعجبتك نفسك لأمرت الريح أن تحطمك في الأرض.
والأنبياء معصومون لكن هذا إنذار من الله عزوجل.
فلما مر حجب الشمس عن فلاح، وهو فلاح في الأرض معه مسحاة يزرع بها، ولا يعلم عن هذا الملك العظيم ولا عن الريح، فهو فلاح في الأرض لكنه موصول القلب بالله عزوجل، ويعرف الله عزوجل.
وتقدم الحياة والقلب هو بمعرفتك بالله الواحد الأحد، وانطماس وظلمة القلب هو ألَّا تعرف الله ولو كنت في ناطحات السحاب: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:٤٤] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن الكفار الذين ملكوا الدنيا: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:١٧٩] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن قوة الكافر، وجماله ودنياه: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:٣٣ - ٣٥] مر سليمان عليه السلام فحجب الشمس عن الفلاح، فنظر الفلاح فرأى سليمان على بساط الريح، وكانت الريح تعمل بنفسها بساطاً، فقال الفلاح: سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً، فذهبت الكلمة؛ لأن هذه الكلمة -سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر- لا تنزل في الأرض بل تصعد في السماء، والدليل على أنها تصعد هو قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:١٠].
الكلمات الطيبة تتجه إلى الله الواحد الأحد، أما الكلمات الخبيثة: اللعن الشتم البذاء الغيبة النميمة الزور، فإلى سجين وهي محسوبة على العبد، أما الكلمات الطيبة، فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:١٠].
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {إن لتسبيح العبد المسلم دويٌ كدوي النحل حول العرش} وهذا الحديث في سنده نظر، وورد في حديث آخر يورده أهل العلم في فضل القرآن: {أن القرآن في آخر الزمان يعود من قلوب الناس فيكون له دويٌ كدوي النحل، فيقول الله: عد إلى صدور الناس، قال: يا رب! كيف أعود إلى أناس هجروني بالنهار بالعمل، وهجروني في الليل، وتوسدوني عند رءوسهم، فيقبضه الله من قلوب العباد} وهو من علامات الساعة، وهذا الحديث ولو أن سنده لا يقوم، لكن دلائل وقواعد الإسلام تؤيده فهو من علامات الساعة.
قال الفلاح: سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً، فسمع سليمان الكلمة فقال للفلاح -وقد هبط عند الفلاح-: ماذا قلت؟ قال: مررت بي فرأيت ملكك فأعجبني ملكك، فقلت: سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً.
فقال سليمان: والذي نفسي بيده! لقولك: سبحان الله خير مما أوتي آل داود.
ويؤيد ذلك ما ثبت في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس}.
فلذلك رفع الله إدريس عليه السلام مكاناً علياً.
وقد كان إدريس عليه السلام خياطاً يخيط بالإبرة ويبيع على الناس وهو نبي مرسل، وزكريا عليه السلام كان نجاراً، وداود عليه السلام كان حداداً، فلما علم الله تواضعهم رفعهم سبحانه، أما إدريس فقال الله عز وجل: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [مريم:٥٧] يقولون: كان عندما يدخل الإبرة ويخرجها يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ثم يخرج الإبرة، فأوحى الله إليه: يا إدريس! وعزتي وجلالي لأرفعنك مكاناً علياً، قال: يا رب! بماذا وأنا مذنب؟! -أي: معترف بالتقصير- قال: إنه يُرفع عملك مع عمل أهل الدنيا، فيعادل عملك نصف عمل أهل الدنيا بالتسبيح والتهليل.
وهذا تسديد من الله أن تجد العبد دائماً يسبح ويهلل.
قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: "كان خالد بن معدان يسبح في اليوم مائة ألف تسبيحة".
وهذا توفيق من الله عز وجل.