للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[مادة البذل بين الإخوة المؤمنين]

وهناك مادة قررها عليه الصلاة والسلام في مدرسته: وهي مادة البذل بين الإخوة المؤمنين.

وهي واجب الأخوة بين المؤمنين، وفي حديث صحيح: {أن الله -سبحانه وتعالى- يقول: وجبت محبتي للمتباذلين فيَّ، والمتزاورين فيَّ}.

المتباذلون: الذين يعطي أحدهم أخاه في الله، وعند أبي داود بسند صحيح: {من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان}.

مادة البذل مقررة عند العرب قبل الإسلام؛ لكنها كانت غير مهذبة ولا محتسبة الأجر من الله، لماذا ينفق حاتم رياءً وسمعةً؟

لماذا يضيف عبد الله بن جدعان؟

رياءً وسمعةً، كانت مائدة عبد الله بن جدعان لا يفارقها الناس، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ ابن مسعود لما قتل أبو جهل تعرف جثة أبي جهل بجرحٍ في رُكبته، فإني تصارعت معه على مائدة ابن جدعان فصرعته، وهذا p=١٠٠٠٥٥٤>> ابن جدعان يثير العجب!! قالت عائشة كما في صحيح مسلم: {يا رسول الله! أينفع ابن جدعان إنفاقه؟ قال: لا.

إنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين}.

وقال عدي بن حاتم كما هو عند صحيح ابن حبان: {يا رسول الله! إن أبي كان يقري الضيف، ويحمل الكلَّ، ويعين على نوائب الدهر، فهل ينفعه ذلك عند الله؟ قال: لا، إن أباك طلب شيئاً وأصابه} أي أنه طلب الذكر؛ ولذلك يُذكر حتى في القُرى والبوادي، حتى العجائز يعرفن حاتماً الطائي، فهذا جزاؤه، طلب الذكر فأعطاه الله الذكر، واسم مدرسته: مدرسة البذل عند العرب قبل الإسلام، يقول حاتم لامرأته:

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلاً فإني لست آكله وحدي

من شروط حاتم: إذا أتى على مائدته ألا يقرب المائدة حتى يأتي رجل آخر يأكل معه، فإذا لم يأتِ رجل آخر ترك الغداء أو العشاء حتى يكون هو ورجل آخر.

رأيت في كتب الأدب قصة عن حاتم -الله أعلم بصحتها- لا تضركم؛ لا في العقيدة ولا في الأسماء ولا في الصفات:

يقولون: كانت أمه تضعه على ثديها ومعه أخ آخر من الرضاعة ماتت أمه، فكانت أم حاتم: ترضع هذا وهذا في وقت واحد، فإذا رفع أخوه من الرضاعة فمه عن ثدي أمه رفع حاتم فمه؛ لئلا يرضع حتى يرضع ذاك.

يعني: مولود الكرم معه، وبعض الناس مولود معه البخل ويموت معه البخل، ومسجل عليه، ومنتسب معه، ويلحد معه، ويعيش، ويموت، وهو بخيل.

قال عبد الملك بن مروان لوزرائه وهم في سمر: من تريدون أن أباكم من العرب؟

أي: من يتمنى منكم أباً غير أبيه؟

قالوا كلهم: لا نريد إلا آباءنا، قال: أما أنا فليت أبي عروة بن الورد الذي يقول:

أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى بوجهي شحوب الحق والحق جاهد

يقول: تضحك مني لأنك سمين وأنا نحيف، ما سبب نحفي وسمنك؟

اسمع السبب:

أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى بوجهي شحوب الحق والحق جاهد

أوزع جسمي في جسوم كثيرة وأحسو قراح الماء والماء بارد

يقول: أنت تأكل ما يكفي ستة، وأنا آكل قليلاً، أنا آكل نصف قرص، وأنت تأكل ثمانية أقراص، تضحك مني؛ لأني أُضِّيف الناس وأنت ما تضيف إلا بطنك.

فإني امرؤٌ عافي إنائي شركة وأنت امرؤٌ عافي إنائك واحد

يقول: أنا -دائماً- على مائدتي مائة رجل، وأنت على مائدتك نفسك فقط، فهذه مدرسة البذل، فأتى الرسول صلى الله عليه وسلم لمدرسة البذل فأدخلها في مدرسته؛ لكن بتهذيب واحتساب، جعل البذل لله والإنفاق له، فأتى الصحابة بالعجائب، فتجاوزوا أكرم حاتم وهرم بن سنان وعروة بن الورد.

يأتي أبو بكر بماله، فيجعله في يد الرسول صلى الله عليه وسلم كله، ويشتري عثمان بئر رومة ويجعلها للمسلمين وللأكباد الحرة، ويأتي سعد بن عبادة، فينحر في غداة واحدة مائة ناقة؛ حتى تشبع الصقور والوحوش الكواسر من أجل أن يشبع الرسول عليه الصلاة والسلام، ويأتي الفقير فإذا هو أجود من الغني.

وقد أتى الرسول عليه الصلاة والسلام بالخير، فهو أجود من الريح المرسلة، لا يعرف كلمة: لا، قال مرة كما قال جابر: {أتى أعرابي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فسأله سؤالاً؟ فقال: لا، وأستغفر الله} أي أنه يستغفر الله من كلمة "لا".

ما قال (لا) قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم

أتاه هذا الضيف، فقال: من يضيف ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقام رجل فقير من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله! فأخذ معه الضيف وليس في بيته إلا شيء من شعير، وله أطفال وزوجة، وهذا الشيء من الشعير لا يكفي إلا واحداً، فقال لامرأته: نوِّمي أطفالنا هذه الليلة قبل العشاء وهذا هو الكرم في منتهاه، فقد أثر الضيف على أطفاله وعلى بطون أطفاله وعلى صغاره، فلن يبلغ كرَمه كرمٌ، فنومت الأطفال، وكانت امرأة تعين صاحبها على الكرم، وبعض الناس إذا أراد أن يكرم الضيوف يستشير زوجته أولاً، ويتصل بها، ويعقد معها جلسة طارئة منغلقة، ثم يحسب لها الضيوف، ومتى يأتون وكم عددهم!! فإذا صدر الإذن منها دعاهم، وهذا هو البخيل كل البخل، إذ لا داعي لاستشارة المرأة في إكرام الضيف، ويجوز للرجل أن يدعو ضيوفه بإجماع أهل العلم دون أن يستشير زوجته، إلا إذا خاف أن تكسر رأسه!

المقصود: أن زوجة هذا الصحابي ذهبت فنومت أطفالها، وقال لها: إذا جلست أنا والضيف أثناء العشاء فتظاهري بإصلاح السراج ثم أطفئيه -هذه ليلة الكرم- فتظاهرت بإصلاح السراج فأطفأته، فبات الضيف يأكل، ويتظاهر صاحب البيت أنه يأكل وهو لا يأكل، فأتى الأنصاري بضيفه يُسلِّمه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أكرمه؛ فتبسم صلى الله عليه وسلم، وقال: {لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما البارحة}.

فجزى الله رسول الله صلى الله عليه وسلم عنا خير الجزاء في تعليمه البذل والعطاء، وجزى الله تلكم الثلة الرائدة والنخبة المصطفاه خير ما جزى أصحاب النبي عن نبيهم عليه الصلاة والسلام.

<<  <  ج:
ص:  >  >>