[حفر الخندق وما فيه من بشارات]
فأشار سلمان بأن يُحفر حول المدينة خندقٌ لا تخترقه خيول المشركين، فاستجاب صلى الله عليه وسلم لهذا الرأي، وقام الصحابة يحفرون الخندق، وشاركهم المصطفى عليه الصلاة والسلام بحفر الخندق بيده، وقامت المعاول والمساحي تشتغل ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم معهم، كل اثنين من الناس معاً، فأحدهم يحمل المكتل على ظهره، والآخر يعبئ المكتل (الزنبيل).
والرسول صلى الله عليه وسلم جعل له رفيقاً من هذا الجيش، وهو جعيل، وهو رجلٌ ضعيفٌ، فكان رفيقاً للرسول صلى الله عليه وسلم، فكان عليه الصلاة والسلام ربما يعبئ له الزنبيل، فيحمله هذا المسكين حتى يوصله إلى المكان الآخر، وربما يحمل صلى الله عليه وسلم الزنبيل، وكان يقول له صلى الله عليه وسلم: يا جعيل! أنت عمرو، فيقول الصحابه:
سماه من بعدِ جعيل عَمْراً وكان للبائس يوماً ظهراً
وأخذوا ينشدون هذا النشيد الحبيب ليحركوا النخوة القتالية في نفوس المقاتلين؛ الذين ما أصبح في بطونهم شيءٌ من الطعام، وأوشكوا أن يسقطوا على وجوههم من الجوع، فأخذ ينشد معهم صلى الله عليه وسلم كما قالوا:
سماه من بعدِ جعيل عَمْراً وكان للبائس يوماً ظهراً
يقول: عمرا، ويقول ظهراً.
وأتى عليه الصلاة والسلام في كوكبةٍ من الصحابة وهم يحفرون، فأخذ يردد معهم ويقول:
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فثبت الأقدام إن لاقينا إنا إذا كيد بنا أبينا
وهذه الأطروحة والأنشودة الغالية أرسلها عبد الله بن رواحة المقاتل العظيم نشيداً للمسلمين، فكان ينشد بها صلى الله عليه وسلم.
وبينما هو يحفر عليه الصلاة والسلام إذ هو بـ زيد بن ثابت قد أخذ سلاحه عليه ونام في الخندق وهو شاب، فأتى عليه الصلاة والسلام يمازحه فحمله بيده، وكان عليه الصلاة والسلام قوي البنية، قوي العاطفة، زعيماً إدارياً يقود الدنيا إلى الله عز وجل، فحمله بيده وقال له: {قم يا أبا رقاد} فتبسم الصحابة رضوان الله عليهم.
وبينما هم يحفرون، عرضت لهم في الخندق صخرة كبيرة، فتوقفوا عن الحفر؛ لأنها لا تعمل فيها المعاول، ولا تشتغل فيها المساحي، فدُعي الرسول صلى الله عليه وسلم، فأتى والحجر على بطنه الشريف؛ فأين الذين يرمون الموائد في الزبالات والقمائم.
والمسلمون يموتون جوعاً وعرياً وهلاكاً في أفغانستان وفلسطين وإفريقيا وفي كل صقع؟ وهم يموتون في المستشفيات تخماً وحبطاً وتبجحاً بنعمة الله عز وجل.
فينزل عليه الصلاة والسلام فيطلب فأساً، فيناول فأساً عليه الصلاة والسلام فيضرب الصخرة؛ فتلمع لمعاناً رهيباً في الجو، فيقول: {والذي نفسي بيده لقد أضاءت لي قصور كسرى، وإن الله سوف يفتحها عليَّ، ثم يضرب الضربة الثانية فتلمع الصخرة لمعاناً رهيباً في الجو، ويقول: والذي نفسي بيده لقد أضاءت لي قصور قيصر الروم، ثم يضرب ضربة ثالثة ويلمع البرق العجيب في الجو ويقول: والذي نفسي بيده لقد أضاءت لي قصور صنعاء} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فيتغامز المنافقون ويقولون: لا نجد كسرة الخبز وهو تلمع له قصور كسرى وقيصر!
فلذلك صور الله هذه الصورة ونقلها لنا وهو يبكتهم ويخزيهم -انظر إلى الرسالة الخالدة كيف انتشرت في الأرض- قال سبحانه: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:١٢] يقولون: لا قصور كسرى ولا قصور قيصر ولا صنعاء وإنما هذا غرور وكذب، ولكن بعد خمسٍ وعشرين سنة يسقط إيوان كسرى الطاغية الظالم على وجهه في الأرض، وينصدع بتكبيرات كتائب الإسلام التي دخلت، فهل هذا غرور؟! وهل هذا كذب؟! وهل هذا دجل؟!
من الذي سجد في صحراء سيبيريا؟!
ومن الذي أعلن لا إله إلا الله في الأندلس؟
ومن الذي خاض بحر الجنج إلا أتباع من ضرب تلك الصخرة.
أرواحنا يا ربِّ فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
وبينما هو يحفر عليه الصلاة والسلام، وقد بلغ به الجوع مبلغه، واحمر وجهه من الجوع مع الصحابة، أتاه جابر، فوجد هذا الجائع العظيم وهو يكد ويكدح لصالح: لا إله إلا الله، فذهب إلى امرأته وعرض عليها الخبر، وكانت امرأة صالحة قوامة صوامة، فقالت: عندنا عناق، والعناق عند العرب لا تكفي إلا اثنين أو ثلاثة، فما بالُك إذا كانوا جائعين، وبعض الناس يستطيع أن يأكل عناقين إذا جاع لكبر جسمه أو لتعبه.
وقالت: وشيءٌ من شعير فذبح جابر العناق، وسلخها وأنزلها في القدر، وأتى بالشعير فطحنته زوجته وعجنته، وذهب ونادى الرسول صلى الله عليه وسلم بصوتٍ خافت؛ لئلا تنفضح المسألة ولا تصبح شائعة فيأتي الناس، فيتكدسون في الشوارع على عناق وعلى شيءٍ من شعير.
لكن الرسول صلى الله عليه وسلم رفع صوته ونادى الناس، فظن جابر أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما فهم الدعوة، فقال في نفسه: حسبنا الله ونعم الوكيل، وذهب ووصل الناس مع الرسول صلى الله عليه وسلم وقدم الطعام، ولكن بركة الهادي صلى الله عليه وسلم، والمعجزة الحقة من رب السماوات والأرض تنزل على هذا الطعام، فيأكلون عشرة عشرة، فينتهون كما سلف في الحديث.