[الانغماس في الملذات من أسباب النكبات]
من أسباب النكبات الانغماس في الملذات، يقول الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا} [الطلاق:٨] وهنا يقول: {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص:٥٨] أي عاشت البطر والترف والتفسخ، وعاشت شيئاً من التنعم الذي هو فوق ما يمكن أن يتصوره الإنسان، وفوق مستوى بعض الشعوب، مثلاً هذه الكبكات تباع إلى ثلاثة آلف عندهم، وهي موجودة الآن في بعض المجتمعات أي ترف فوق العادة، يذكرون عن بعض الناس أنه: كان يلبس ثوباً فإذا خلعه للغسل لا يلبسه مرة ثانية لأنه دائماً يلبس جديداً، هل بعد هذا الترف من ترف!
عمر بن الخطاب -أمير المؤمنين- ما عنده طيلة الخلافة إلا بردة مرقعة، يقولون أنه يصلي بها الجمعة وفيها أربعة عشر رقعة، مرقوعة بيده، ويوم جاء الهرمزان مبعوث كسرى وجد عمر وهو نائم تحت الشجرة بلا حراسة فارتعد، وقال: حكمت فعدلت فأمنت فنمت، ولذلك يقول حافظ إبراهيم:
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً ببردة كاد طول العهد يبليها
فقال قولة حق أصبحت مثلاً وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهم فنمت نوم قرير العين هانيها
دخل الربيع بن زياد الحارثي على عمر -أمير من الأمراء- فجلس أمام عمر قال: [[وكنت أتحذر في كلامي لا أسقط في كلمة -لأنه أمام عقلية جبارة ومن عظماء الدنيا- قال: فسلم الله وسدد حتى قدم لـ عمر إفطاره فإذا هو شيء من ملح مجروش مع شعير مع ماء، قلت: يا أمير المؤمنين! أنت أولى الناس بالمطعم الهنيء والمركب الوطيء والملبس الثري، قال عمر: فأخذ خشبة فضرب ِأميره في رأسه، قال: أولاً: والله لن أوليك إمارة بعد الآن، وأما وصاياك لي هذه فاحتفظ بها لنفسك.
ثانياً: والله إني أعلم الناس بلباب البر، وتسيل العسل وأشهى اللحم لكن أخشى أن أعرض على الله يوم القيامة فيقول لي: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الاحقاف:٢٠] فقال هذا الأمير: ووددت أن الأرض ساخت بي وماتكلمت]].
هكذا كان عمر، ولذلك حققت الأمة في عهده انتصاراً ما سمع التاريخ بمثله حتى كان ملوك الكفار إذا سمعوا بـ عمر يغمى على الواحد منهم من الخوف، أنزل الله رعبه في قلوب الشياطين، شياطين الإنس وشياطين الجن، فهذا الانغماس في الملذات ردى {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء:١٦] يعني: الإرادة الكونية، ماذا يفعل الله؟
هل يدمر هذه القرية؟
لا، {أمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء:١٦] وفي بعض القراءات (أمّرنا) أي: كثرنا {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:١٦].
ومما يذكر أن القاهر الخليفة العباسي يقولون: تولى الخلافة ونصحه الناس: اتق الله! فأخذ حديقة وجعل كل الحديقة من فضة، شجرها من فضة -أي- وهمية، مثل المدن الوهمية، وجعل أسوداً، وثعالب ودجاجاً من فضة، ثم يأتي يصب الماء من أذناب الأسود فيخرج الماء من فم الأسود فيصب في البرك، ما الداعي لهذا الكلام؟
ثم أتى إلى برك في بيته، خزانات مثل خزانات الماء فحفرها ثم ملأها ذهباً وفضة، ثم جمع أبناءه وبناته، وقال: لا تخافوا من الدهر، سبحان الله.
هذا المال عندكم فلا تخافوا من شيء، افعلوا ما شئتم، فعلمه الله الذي يصرف الدهر ولا يصرفه الدهر، والذي يغير ولا يتغير، دخل عليه ابن عمه فخلعه في تلك الساعة، ثم أتى عليه فسمل عينيه بالحديد المحمي -أخرج عينيه حتى أصبح أعمى- ثم أخرجه من ملكه وأخرج أبناءه، وطردهم وأتى بعد سنة هذا القاهر يمد يده في المسجد، -مسجد المنصور بدار السلام بـ بغداد - يقول: من مال الله يا عباد الله.
علمه الله أين البرك وأين دجاج الفضة، وثعالب الفضة، وأسودها {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء:١٦] وقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً} [الطلاق:٨].
ويقولون: إن عجوزاً كانت في الأندلس بنت ابن جحوان، كانت صالحة، تصلي الليل والنهار وابنها كان من أفسد الناس، لا يعرف إلا الغناء وشرب الخمر، فكانت تتعاهده دائماً بالنصيحة: اتق الله، حافظ على الدين، حافظ على الصلاة، فيقول: لا.
وفي الأخير استولى عليه ملك آخر، فحطمه واستولى على قصره، وأخذه وأمه وأودعهم السجن، فتقول له أمه كلما أصبحت تريد تصبح عليه، وهو في زنزانة وهي في زنزانة فتقول له:
ابكِ مثل النساء مجداً تولى لم تحافظ عليه مثل الرجال
ولا يحافظ على المجد إلا بتقوى الله عز وجل، قال سبحانه: {وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [المؤمنون:٣٣] {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:٣] وقال سبحانه عن أوليائه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ * إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:١١ - ١٢].