أولاً: زكاة للنفس، تزكيها من أوضار البخل، والشح، وترفع قدرها عند الله، وقد وصف عليه الصلاة والسلام المتصدق والبخيل برجلين عليهما جبتان من حديد، كلما أنفق المنفق اتسعت الجبة حتى تغطي أثره، وكلما أمسك الممسك ضاقت عليه الجبة حتى تخنقه {ولله عز وجل مناديان في كل صباح -كما في الصحيح- ملكان الأول يقول: اللهم اعط منفقاً خلفاً، والآخر يقول: اللهم اعط ممسكاً تلفا} ومن لا يستفيد من المال في الحياة، فلن يستفيد منه بعد أن يموت، فإما حلال فللورثة، وإما حرام يعذب به حتى يلقى الله ويدخله هذا المال النار، وقد رأينا كثيراً من التجار، وسمعنا أخبارهم أنهم شقوا بمالهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
أما في الحياة فبالاستقراء من أخبارهم، تاجر عنده من التجارات الهائلة ما الله به عليم، حضرته الوفاة في منطقة نائية عن منطقته التي فيها قصوره وأمواله وبساتينه ودوره، فلما توفي في المستشفى النائي تصدق عليه الناس بكفن، هذه نتيجة الملايين.
خذ القناعة من دنياك وارض بها لو لم يكن لك إلا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطين والكفن
هكذا هي حياة هؤلاء في الدنيا، وأما بعضهم فقد سعد سعادة بهذا المال {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى}[الليل:١٧ - ٢١].
كان ابن هبيرة الوزير تاجر مشهور، يفطر كل يوم في رمضان عشرة آلاف صائم يبني القناطير المقنطرة، يبني المساجد، يبني البرك للحجاج من العراق إلى مكة يشربون ماءً بارداً، وصل إلى منى يقود الحجاج، وفي اليوم الثامن انقطع الماء على الناس، وانتهى الماء، وأصبحوا في أزمة وأشرفوا على الهلاك، فقام هذا الرجل الصالح -وكان من أغنى الأمة الإسلامية في عهد الدولة العباسية- فرفع يديه، قال: اللهم إنك تعلم أني ما أنفقت أموالي إلا ابتغاء مرضاتك، اللهم إن كنت تعلم أني صادق فأغث الحجاج الآن هذه الساعة.
قال الراوي: فوالله لقد نزل الغيث علينا بـ منى وما في السماء قبله سحابة حتى نزل الثلج مع الماء، فأخذ يأكل الثلج ويبكي ويقول: يا ليتني سألت الله المغفرة، هذا صنف من صنف أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان الذين دفعوا أموالهم وأعطوها سخية أنفسهم، نعم هناك من يحتاج بناء مساجد، وهناك مقاطعات ليس فيها مسجد واحد، هناك قوم يحتاجون إلى برك لإيصال الماء النقي الصحي إليهم لا الماء الملوث الذي يحمل البلهارسيا والموت والسم الزعاف، هناك أناس يحتاجون لبناء بيوت تكنهم من المطر وتظلهم من الشمس، هناك أناس يريدون الحاجة الضرورية، يريدون الخبز -هذا من حوائجهم الضرورية- والأرز والسكر، لا يريدون الكماليات، هناك أناس يريدون اللباس، يتعيد الناس في الألبسة الجديدة والثياب الفاخرة، والواحد منهم يبقى سنة في الثوب الواحد.