خبيب بن عدي يأخذه الكفار أسيراً، ويدخلونه بيتاً غير مسقوف، وتصهره الشمس ولكن إيمانه يبرده، يأتيه البرد ولكن إيمانه يدفئه، يأتيه الجوع ولكن إيمانه يشبعه، يأتيه الظمأ ولكن إيمانه يرويه، تقول إحدى النساء من اللواتي عشن قريباً من خبيب: رحم الله خبيباً، والله لقد كنت أنظر إليه وقد حصر في مكة في بيت، ما في مكة عنبة واحدة وإن قطاف العنب يأكله خبيب، من أين؟ من عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، {أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[آل عمران:٣٧] وخرج إلى ساحة الإعدام ساعة الصفر في حياة المسلم، يوم يستعلي على كل شيء، ساعة الصدق مع الله، خرج أهل مكة ليقتلوه، وهو ما قتلهم وما سرقهم {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ}[غافر:٢٨] لكنه ذنبه أنه رجل يعلن التوحيد، واجتمعوا في جمع حاشد في ضاحية من ضواحي مكة، فقال لهم: أريد أن تمهلوني لأصلي ركعتين، قالوا: صل ركعتين واستعجل، فقام يتوضأ وهو يعرف أن الموت سوف يأتيه بعد ركعتين، فصلى ركعتين ثم سلم ثم قال: [[والله الذي لا إله إلا هو، لولا أن تقولوا: جزع من الموت لطولت صلاتي، ثم قال: اللهم أخبر رسولك ما نلقى الغداة -يعني: أخبره بما يفعلوا بنا هذا اليوم، وفي سيرة موسى بن عقبة:{كان عليه الصلاة والسلام وهو في المدينة وخبيب! في مكة يقول: السلام عليك يا خبيب! السلام عليك يا خبيب! السلام عليك يا خبيب!} -قال: اللهم أبلغ رسولك ما نلقى الغداة، وأخذ يقول للكفار: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، فلما رفعوه إلى مشنقة الموت -هل بكى؟ لا.
لأن الأبطال لا يبكون في ساعة الصفر، هل جزع؟ لا.
لأن الأبطال لا يجزعون ساعة الموت، وهل ندم وتحسر؟ لا.
لأنه يريد هذه الساعة، ويعمل لها، إنه يريد الجنة- قال له أبو سفيان في آخر لحظة: هل تريد أن محمداً مكانك وأنك في أهلك ومالك سليماً معافى؟ قال: والله الذي لا إله إلا هو، ما أريد أني في أهلي سليماً معافى وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصاب بشوكة، ثم أخذ ينشد -هل رأيت شاعراً ينشد عند لحظة الموت؟ إن سمعت شاعراً فهذا هو الشاعر العظيم، شاعر الإيمان والحب والطموح، لا شاعر الفن الرخيص العفن المتخلف، الذي يشعر ليهدم الأمم ويزيل الشعوب ويخرب القلوب- أخذ على المنصة يلقي قصيدته الرائعة المدوية على رءوس الأشهاد لتحفظ في ميزان حسناته يوم القيامة، يقول:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أشلاء شلوٍ ممزع
ثم قتل]]
ولكنه ما قتل! إنه حي عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى مع الشهداء إن شاء الله، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}[فصلت:٣٠ - ٣١] لا يكتشف طريق الجنة عند كثير من الناس إلا في سكرات الموت، وكثير من الناس لا يستفيق من سكاره وخماره إلا في ساعة الموت، تلك الساعة التي يضعف فيها القوي، ويفتقر الغني ويعجز الجبار، ساعة الموت يوم لا تنفع المنعة ولا الدفاع، ساعة الموت الواخزة المؤلمة المحيرة المدهشة.