[حال السلف مع الدنيا]
ثابت البناني المحدث الكبير بكى حتى ذهبت عينه من خشية الله، وبقيت عينٌ واحدة، قالوا: نخرج بك إلى حدائق خراسان لعلك ترى الخضرة والماء، علك إذا رأيت الخضرة أن يعود لك بصرك، فخرجوا به، فرأى الحدائق الخضراء في خراسان، ورأى البساتين، ورأى الماء يجري، لكن كلما رأى بستاناً بكى وتذكر الجنة، وكلما رأى حديقة بكى وتذكر الجنة.
وداع دعا إذ نحن بـ الخيف من منى فهيج أشواق الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بليلى طائحاً كان في صدري
وعاد إلى البصرة قالوا: كيف وجدت النزهة؟ هل هي جيدة؟ قال: والله ما أعجبني في النزهة كلها إلا عجوزاً رأيتها تصلي ركعتي الضحى، لله درك يا من ينظر إلى هذه القصور الدور وهذا العمار كأنها الأحذية أو التراب أو الرماد!
ماذا تساوي عند أن نتفكر في جنة عرضها السماوات والأرض؟
كم نعيش؟ ستين سنة، أو سبعين سنة فنترفه ونعصي هذه المعصية، ونلهو ونلعب {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:٦٢] {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً} [مريم:٩٣ - ٩٤].
دخل صلى الله عليه وسلم فارتقى المنبر، فقال للصحابة: {أنقاتل كفار قريش في أحد أو المدينة؟ قالوا: نقاتلهم داخل المدينة، فقام شاب اسمه نعيم بن مالك بن ثعلبة وكان في آخر الصفوف، قال: يا رسول الله! لا تحرمني دخول الجنة، والله الذي لا إله إلا هو، لأدخلن الجنة فقال عليه الصلاة والسلام: بم تدخل الجنة؟ قال بخصلتين: بأني أحب الله ورسوله، ولا أفر يوم الزحف، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم، وقال: إن تصدق الله يصدقك} فخرجوا إلى أحد فكان أول مقتول.
أتى عبد الله بن عمرو الأنصاري قبل المعركة بليلة، فرأى في المنام أنه أول من يقتل؛ فأيقظ بناته في الليل يستودعهن آخر ليلة، والليلة الثانية مع الله في ضيافة الواحد الأحد {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:٢٧ - ٣٠] فلما أتى أيقظ بناته، وقال: [[أستودعكن الله الذي لا تضيع ودائعه، رأيت أني أول من يقتل غداً، ويا جابر! عليك بأخواتك خيراً]].
وأتى الصباح الباكر البهيج -صباح أهل الجنة- والتقى مع الكفار فقتل، فضرب في جسمه ضرباً مبرحاً، حتى جاء في بعض الروايات أنه ما عرف إلا ببعض بقعٍ في جسمه أو ببعض بنانه، وقيل: هذا أنس بن النضر، لكن لما قتل عبد الله بن حرام رضي الله عنه أتت أخته تبكي، فيقول عليه الصلاة والسلام: {ابكي أو لا تبكي! فوالله الذي نفسي بيده، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعته، والذي نفسي بيده -يا جابر - لقد كلم الله أباك كفاحاً بلا ترجمان فقال: تمن؟ قال: أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك مرة ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتمن، قال: أتمنى أن ترضى عني فإني قد رضيت عنك، فقال الله: إني قد أحللت عليك رضواني لا أسخط عليك أبداً} الحياة هي حياة الجنة، وحياة القرب من الله الواحد الأحد، وحياة التوفيق والسعادة، ومن حرمها فقد حرم الأمان: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:٥٨].
يقول الملك لـ ابن تيمية: أتريد ملكنا؟ قال: والله ما أريد ملكك ولا ملك آبائك، ولا ملك أجدادك، ولكن أريد جنة عرضها السماوات والأرض.
فيا مسلمون! لا يغرنكم بالله الغرور، نعيمٌ، وبساتين، ونزهات، وماءٌ، وظلٌ وارف، وكلها تتلاشى ولا يبقى إلا ما عند الواحد الأحد.
عفاء على هذه الدار وسحقاً لها.
دنياك تزهو ولا تدري بما فيها إياك إياك لا تأمن عواديها
تحلو الحياة لأجيالٍ فتنعشهم ويدرك الموت أجيالاً فيفنيها
فاعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهبٌ والمسك طينتها والزعفران حشيشٌ نابتٌ فيها
اللهم اجعلنا من ورثة جنتك جنة النعيم.