[ملاحقة قريش للنبي صلى الله عليه وسلم]
خرج إلى غار ثور؛ ليختفي من الأعداء، فتألب عليه الأعداء، وتجمعوا، وصعدوا على سطح الغار، ونزلوا في ميمنة الغار، وأحاطوا بميسرته، وطوقوه، وأرادوا أن يدخلوا الغار؛ فسلط الله وسخر عنكبوتاً وحماماً فعششت تلك وباضت تلك:
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحمِ
عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عالٍ من الأطمِ
فما دخلوا الغار، يقول أبو بكرٍ وهو في الغار مع المصطفى: {يا رسول الله، والله لو نظر أحدهم وهو فوق الغار إلى موطن قدميه لرآنا} فيتبسم عليه الصلاة والسلام -يتبسم الزعيم العالمي، والقائد الرباني، الواثق بنصر الله- ويقول: {يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما} ويقول: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:٤٠] وهي دستورٌ للحياة.
إذا ظمئت وجعت، فلا تحزن، إن الله معك.
وإذا مات أبناؤك وبناتك، فلا تحزن، إن الله معك.
وإذا أرصدت في طريقك الكوارث، والمشكلات، فلا تحزن، إن الله معك.
فكان عليه الصلاة والسلام من أصبر الناس.
ويخرج من الغار، ولا يدري الكفار أنه كان في الغار؛ فينسلُّ إلى المدينة، وليتهم تركوه بل يعلنون عن جائزةٍ عالميةٍ لمن وجده، جائزة الدمار، والعار، وقلة الحياء والمروءة، مائة ناقةٍ حمراء لمن يأتي به حياً، أو ميتاً؛ فيلاحقه سراقة بن مالك بالرمح والسيف؛ فيراه صلى الله عليه وسلم، والرسول يمشي على الصحراء جائعاً، ظمآناً، فارق زوجته، وفارق بناته، وفارق بيته، وفارق جيرانه وأخواله، وأعمامه وعمومته، ليس له حرس ولا جنود، لا رعاية ولا موكب، وسراقة يلحقه بالسيف، فيقول أبو بكر: [[يا رسول الله والله لقد اقترب منا]] فيتبسم عليه الصلاة والسلام مرةً ثانية؛ لأنه يعلم أن رسالته سوف تبقى ويموت الكفار، وسوف تبقى دعوته حية، ويموت المجرمون، وسوف تنتصر مبادئه وتنهزم الجاهلية، فيقول: {يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما}.
ويقترب سراقة، فيدعو عليه صلى الله عليه وسلم، فتسيخ أقدام فرسه، ويسقط، وينادي في فرسه فيقوم ويركب ويقترب، فيدعو عليه فيسقط، فيقول: يا رسول الله! أعطني الأمان، ويطلب أن يحقن دمه، والسيف معه وذاك بلا سيف، فرَّ من الموت وفي الموت وقع:
يا حافظ الآمال أنت حميتني ورعيتني
وعدا الظلوم علي كي يجتاحني فمنعتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك نصرتني
فيعطيه أماناً، يصل إلى المدينة ويشارك في معركة بدر، فيجوع حتى يجعل الصخرة والحجر على بطنه.
يا أهل الموائد الشهية! يا أهل التُخم والمرطبات! والمشهيات والملابس! رسول الإنسانية وأستاذ البشرية، يجوع حتى ما يجد دقل التمر وحشف التمر: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:٥].
تموت بناته الثلاث، واحدة تلو الأخرى، تموت الأولى فيغسلها ويكفنها، ويعود من المقبرة وهو يتبسم: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:٥].
وبعد أيام تموت الثانية، فيغسلها ويكفنها، ويعود وهو يتبسم {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:٥].
تموت الثالثة؛ فيغسلها ويكفنها ويدفنها، ويعود وهو يتبسم {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:٥].
يموت ابنه إبراهيم فيغسله ويكفنه ويدفنه، ويعود وهو يتبسم.
عجباً من قلبك الفذ الكبير، لأن الله يقول له: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:٥].