للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[قمة العفو]

ومما يروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {أيكم يفعل كما يفعل أبو ضمضم؟ قالوا: ما فعل يا رسول الله؟ قال: قام البارحة فصلى بالليل، وقال: اللهم إنه ليس لي مالٌ أتصدق به في سبيلك ولا جسمٌ أجاهد به في ذاتك، ولكني أتصدق بعرضي على المسلمين، اللهم من شتمني أو سبني أو اغتابني فاجعلها له كفارة} فهذا هو التصدق بالأعراض.

ولابد على الدعاة وطلبة العلم أن يبذلوا أعراضهم كما بذلها محمد عليه الصلاة والسلام، فإنه بذل عرضه وماله ودمه ووقته لهذه الدعوة الخالدة، فعسى الله أن يجعل دماءنا وأنفسنا وأعراضنا وأموالنا وأبناءنا وأهلنا فداءً لـ (لا إله إلا الله)؛ لترتفع لا إله إلا الله وحدها ولتبقى الأعراض والدماء فداءً لها.

وذكر الغزالي صاحب الإحياء: " أن الحسن البصري رحمه الله جاءه رجل، فقال: يا أبا سعيد! اغتابك فلان، قال: تعال، فلما أتى إليه أعطاه طبقاً من رطب، وقال: اذهب إليه، وقل: أعطيتنا حسناتك وأعطيناك رطبنا، فذهب بالرطب إليه ".

والمقصود من هذا: أن الدنيا أمرها قليل، وأن بعض الناس يتصدق بحسناته فلا عليك مهما نالك حاسدٌ أو ناقم أو مخالفٌ أو منحرف فاعتبر ذلك في ميزان حسناتك، وأنه رفعة لك، وقرأت في سيرة موسى عليه السلام الذي كلمه الله بلا ترجمان قال: يا رب! أريد منك مسألة، قال: ما هي يا موسى؟ قال: أسألك أن تكف ألسنة الخلق عني، -تكلموا فيه وفي عرضه، حتى تكلموا في بعض أموره الخاصة ومعاشرته للنساء، وقالوا: أنه آدر لا يستطيع أن يأتي النساء وأمورٌ كثيرة: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:٦٩]- فقال الله عز وجل: يا موسى! وعزتي وجلالي ما اتخذت ذلك لنفسي، إني أخلقهم وأرزقهم وإنهم يسبونني ويشتمونني.

سبحان الله! الله الرحمن الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد يسب من الناس! هذا المخلوق الحقير يخرج نطفة من بطن أمه ثم يسب الله ويشتمه.

وفي البخاري: {شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وسبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، أما سبه إياي فإنه يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار كيف أشاء، وأما شتمه إياي فإنه يقول: إني اتخذت صاحبة وولداً، وأنا الله لم يكن لي صاحبة ولا ولد} وعند أحمد في كتاب الزهد: {يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: عجباً لك يا بن آدم! خلقتك وتعبد غيري! ورزقتك وتشكر سواي! أتحبب إليك بالنعم وأنا غنيٌ عنك وتببغض إليَّ بالمعاصي وأنت فقيرٌ إليَّ! خيري إليك نازل، وشرك إليَّ صاعد}.

فما دام أن الواحد الأحد يسبه بعض الأشرار من خلقه ويشتمونه فكيف بنا نحن ونحن أهل التقصير؟!

إذا علم هذا فإن في المثل العليا التي حملها أصحابه عليه الصلاة والسلام، وتراضوا مع أنهم اختلفوا، وأتت بينهم نفرة في أيامٍ من حياتهم، ولكنهم عادوا في صفاء وعناء وزيارة وحب، لأن المبدأ الذي يحملونه مبدأٌ واحد، ليس مبادئ متعددة: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

<<  <  ج:
ص:  >  >>