[قصة يوسف]
الحمد لله القائل: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ * إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف:٣ - ٦].
والصلاة والسلام على رسول الله القائل: {أتدرون من هو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم} وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
[[دخل عمر رضي الله عنه وأرضاه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد قاصاً يقص على الناس، وواعظاً يعظهم بأخبار الجاهلية، فقال عمر: من هذا؟ فيقولون: هذا قاص يقص علينا، فيعلوه عمر بالدرة -وهي عصى غليظة- ويضربه، ويقول له: أتقص يا عدو الله! والله يقول: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:٣]]] ومن أحسن القصص قصة يوسف عليه السلام وبطلها يوسف عليه السلام، وهو يمر فيها بأربعة مشاهد:
المشهد الأول: مشهد الفراق من أبيه، أربعون سنة لا يرى أباه وأهله.
المشهد الثاني: مشهد الفتنة، امرأة العزيز تتعرض له وهي من أجمل خلق الله.
المشهد الثالث: مشهد السجن ليسجن في ذات الله.
المشهد الرابع: مشهد ملك مصر، والتحدث من مصدر القوة بعد الفراق والسجن.
يقول الله عز وجل في بداية السورة: {الر} من هذه الحروف نتكلم بحروفنا، ومن هذه الحروف نقول كلماتنا، ومن هذا الكلام قرآننا.
فيا أيها الفصحاء! يا قريش البليغةالعرباء! صوغي من هذه الحروف كما صغنا منها قرآناً يتلى، المادة موجودة، والخام معروف؛ لكن هل تستطيعون أن تصوغون قراناً كهذا القرآن؟!
{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف:١] كتاب مبين واضح: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:٢] فيا من نام ولم يستيقظ! استيقظ بهذا القرآن، ويا من غفل ولم يصح! اصح بهذا القرآن، ويا من عطل عقله! اعقل بهذا القرآن: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:٣] والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل من بعده عليه الصلاة والسلام، ثم يقول تبارك وتعالى مقدماً للقصة: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:٣] أطيب وأصدق وأروع القصص: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:٣] كنت أمياً لا تقرأ ولا تكتب، كنت أمياً في صحراء مع أمة أمية جاهلة، ليس عندها قصص ولا كتاب.
ثم ينتقل بنا القرآن إلى يوسف عليه السلام، وإلى أبيه يعقوب، الأنبياء المطهرون المشرفون المكرمون، والأسرة العريقة في الكرم والجود والتقوى وفي الورع:
وما كان من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل
وهل ينبت الخطي إلا وشيجة وتغرس إلا في مغارسها النخل
يوسف عليه السلام يصحو وهو غلام لا يقارب العاشرة، وفي الصباح يجلس أمام أبيه، ومن أعجب الأعاجيب عند الطفل أن يرى في النوم ما يرى، لذلك الأطفال يرتاحون إيما ارتياح إذا رأوا في نومهم ما يقصونه على آبائهم، لو رأى حتى خيالاً أو طائراً أو جبلاً، لزاد عليه ونمق وزخرف ولأخبر أهله في الصباح، أما يوسف عليه السلام فما زخرف ولا زاد، يجلس أمام أبيه ويقول: يا أبتاه! إني رأيت البارحة أحد عشر كوكباً -نجماً في السماء، والشمس والقمر- ولو سكت لما كان في القصة عجب كل يرى أحد عشر كوكباً، وكلهم يرون الشمس والقمر، لكن ما هو المذهل يا ترى؟ إن سر الحلم والرؤيا هو: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:٤] رأيتهم نزلوا من السماء وسجدوا لي في الأرض، فلمح يعقوب عليه السلام وهو نبي آتاه الله من العلم والإدراك والفطنة والفهم، أن ابنه هذا سيكون له شأن أيما شأن، وسوف يكون وارثه بالنبوة، فخاف أن يخبر إخوانه، فيأتي الشيطان فيحول بينهم وبينه، وهذا ما حدث.
فقال: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [يوسف:٥] احذر أن يسمعوا هذه القصة، لا تخبرهم أبداً أنك رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر يسجدون لك، ولكنه ما أخذ الوصية وما حفظها وما شك في إخوانه، بل أخبر إخوانه من أبيه، الأشقاء الرحماء، والأصفياء كيف ينقم بعضهم على بعض؟ ولذلك علمنا صلى الله عليه وسلم: {إذا رأى أحدكم رؤيا فلا يقصها إلا على من يحب}.
فأتى يوسف عليه السلام إلى إخوانه وهو أصغرهم وقص عليهم القصة، فثار الحقد في قلوبهم، والحسد في نفوسهم، وبدا تدبير عملية اغتيال يوسف أمراً مؤكداً، بل من المهمات التي يجب أن تنفذ، وأخبر يعقوب عليه السلام وسقط في يديه، وعلم أن المكيدة سوف تتم: {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف:٥ - ٦] وكذلك يجتبيك بهذه الرؤيا وبغيرها، ويعلمك من تأويل الأحاديث: لأنك رأيت رؤيا، ويتم نعمته عليك: نعمة الرسالة والاستقامة.
{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [يوسف:٧] أي: عظات وعبر للمعتبرين، إخوان ينقمون على أخيهم، بل حاولوا طرده وإبعاده من بيت أبيه بل هموا بقتله.