للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[إقامة الحدود]

الدعامة الثانية: دعامة الحدود: الرجم، الجلد، القطع، فأي أمة هذه الأمة المسلمة يوم خرجت مهللة مكبرة متوضئة طاهرة! يزني أحد الناس في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم - ماعز بن مالك - فلما اعترف بالخطأ ورأى أنه أساء وأخطأ وأذنب أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام والحديث في الصحيحين، فيأتيه من أمامه -انظر إلى المشهد- فيخبره أنه زنى، فيعرض عنه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يحب الستر ولا يكشف النقاب عن ذنوب الأمة، ما دامت الأمة مستترة ومتحشمة، فيأتي عن يمينه ويخبره أنه زنى فيشيح صلى الله عليه وسلم يوجهه إلى يساره، فيأتيه من الجانب الأيسر فيخبره أنه زنى فيلتفت صلى الله عليه وسلم، فيأتيه من ورائه ويخبره أن زنى.

قال صلى الله عليه وسلم: أبك جنون؟

قال: لا.

قال: أحصنت؟

قال: نعم.

فأمر صحابته أن يستنكهوه هل به رائحة الخمر، فلعله يكون سكران.

فشموا رائحته فما وجدوا رائحة الخمر، لكن وجدوا إيماناً في الداخل يريد أن يرده إلى الله، وقد كان ماعز يعلم ما هي النتيجة، إنها حجارة تنصب عليه من كل جهة حتى يموت، ولكن لماذا؟ لئلا يتعرض مرة أخرى للنكبة والسخط في يوم العرض الأكبر والغضب من الله.

فقال صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به فارجموه، فذهبوا به فرجموه وأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبروه، قال: {والذي نفسي بيده، لقد رأيته ينغمس في أنهار الجنة}.

وتأتي امرأة وتعلم أنها زنت، وتطلب التطهير، وهي هكذا تسميه، ليس تعذيباً، وتعزيراً بل تطهيراً فالحدود مطهرات وبلسم وعلاج للأمة، ويوم تترك الأمة الحدود تنهار وتصبح أمة فاسقة بعيدة عن الله عز وجل مغضوب عليها، ويوم تترك الأمة إقامة الحد على الشريف وتقيمه على الوضيع؛ تصبح أمة مخذولة في حياتها ومنهجها، وفي ربانيتها ولا يقبلها الله.

وكان عليه الصلاة والسلام يقول على المنبر كما في الصحيحين: {والذي نفسي بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها} فهذا إعلان للبشر أنه لا مداجاة ولا محاباة.

ويذكر في الحديث، وفي سنده نظر: {حد يقام في الأرض خير للأمة من أن تمطر أربعين صباحاً} وعند عبد الرزاق في المصنف: {إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع} فملعون من يذهب يشفع في حدود المسلمين لكيلا تقام؛ لأن معنى ذلك: خيانة (لا إله إلا الله) واعتراض على لا إله إلا الله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:٥٠].

فتأتي هذه المرأة وهي حامل من الزنا فتطلب التطهير، انظر إلى الإيمان! فيقول صلى الله عليه وسلم: حتى تضعي، فتذهب لأن في بطنها نفس معصومة، فتذهب وتبقى حتى تضع وهي صابرة مصلية محتسبة تريد التطهير، وتأتي بالطفل في لفائف وتطلب إقامة الحد، فيقول صلى الله عليه وسلم: أرضعيه حتى تفطميه، فتذهب وتفطمه وتأتي به وفي يده كسرة خبز، فيقول صلى الله عليه وسلم لأحد الناس: من يكفل هذا؟ -أي: الطفل- فيقول أحد الأنصار: أنا يا رسول الله! فيأخذ الطفل وترجم المرأة، ويقول خالد وقد أتاه دم منها: ما لها لو استترت؟ أو قال كلمة مؤذية عنها، قال صلى الله عليه وسلم: {مهلاً يا خالد! والذي نفسي بيده! لقد تابت توبة لو وزعت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم}.

وفي لفظ: {والذي نفسي بيده! لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

فهذه توبة التائبين، وهذه هي الحدود والدعائم التي جعلت لهذا الدين مكانة وعزة في قلوب المسلمين.

ينسب لـ عمر في التاريخ ويذكره ابن الجوزي أنه أقام الحد على ابنه.

أحد أبنائه أخذ نبيذاًَ في مصر متأولاً فيه، فسكر وهو عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب ويثبتها بعض المحدثين؛ فأتى عمرو بن العاص الأمير ورأى أن ابن عمر لا يمكن أن يجلد في السوق، هكذا تأول وإلا فما الفرق ابن عمر يجلد كأبناء الناس؛ لأن لا إله إلا الله لـ ابن عمر ولغير ابن عمر، فأتى به في دار السلطان وفي الديوان الداخلي وجلده، فسمع عمر فاستدعى ابنه واستدعى عمرو وأدب عمرو بن العاص وجلد ابنه - أي: ابن عمر بن الخطاب - أمام الناس، لماذا؟

ليعلم عمرو وليعلم الناس أن هذه الشريعة ربانية كونية تحوي جميع الناس وسيطرتها على كل البشر.

ولـ عمرو بن العاص وابنه قصة مع عمر.

فقد حصل أن تسابق محمد بن عمرو بن العاص مع رجل من أهل مصر، فسبقه المصري، فلما سبقه قال ابن عمرو بن العاص: أتسبقني وأنا ابن الأكرمين؟

فيذهب هذا المصري إلى عمر فيخبره، قال: أخبره من هو ابن الأكرمين؟ عليَّ به وبـ عمرو بن العاص؟

فأتيا من مصر فلما رآهما قال: والله لا يحول بيني وبينهما أحد من الناس، وأتى بالدرة، وقال: [[متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!]]

والشاهد هنا: أن من الدعائم التي أقامها هذا الدين حفظاً لكرامته ولاستقراره في الأرض؛ الحدود.

<<  <  ج:
ص:  >  >>