للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[قصة أبي بكر ومعاوية عند الموت]

روى أهل السير أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه لما احتضر، دخلت عليه ابنته عائشة، فسلمت عليه، وبكت طويلاً، ونظرت إليه وهو خليفة المسلمين، ورفيق الرسول صلى الله عليه وسلم في الغار، وصديق الإسلام يموت في ثوبين متواضعين مجرداً من الدنيا، لا يملك إلا بدنة، وبيتاً متواضعاً من طين وفراشاً واحداً، يموت وهو يملك العالم الإسلامي تحت إدارته وخلافته، فتشتد سكرات الموت عليه، فأنشدت عائشة بعض الأبيات وهي تعزيه في روحه رضي الله عنها، والتفت إليها، مؤنباً ومعارضاً لها بهذا الاستشهاد، كذب الشاعر وصدق الله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:١٩] هذا الموقف ليس موقف قول شعر، وليس موقف محاضرات، وليس موقف مرادات، بل هذا موقف قول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:١٩].

ما معنى تحيد؟ أي: تتصرف كلما أتاك المرض، ذهبت إلى المستشفى والعيادة، وعرضت نفسك على الطبيب علك تمتع، لكن إذا جاء الموت، انتهى كل شيء.

{ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:١٩] هذا ما كنت منه تتصرف، وتحاول أن تلف وتعرض، ولكن الآن لا منجا وملجأ من الله إلا إليه، انتهى كل شيء.

دخلوا على معاوية رضي الله عنه وأرضاه في الملك، وهو على سرير الموت، وهو في دمشق عاصمة الإسلام، فلما أتاه الموت، قال: أنزلوني على التراب، فقالوا: يا خليفة المسلمين! ويا أمير المؤمنين! نرى السرير أرفق لك، قال: أنزلوني لا أبا لكم، انتهى السرير، وانتهى الملك، فأنزلوه، فلما وضعوه في التراب كشف الفراش، ووضع خده، وبكى طويلاً على التراب، قال: صدق الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:١٥ - ١٦] فنسي كل شيء، نسي جيشه وجنده، ونسي ملكه وقصوره، وما كان يعد، وانتهى الأمر إلى هذا الموقف، وهذا المصير المحتوم.

وأنتم تعرفون أن عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي الآخر، لما حضرته الوفاة، بكى طويلاً، وقال: يا ويلتاه! ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه، يا ليتني كنت راعي غنم، يا ليتني كنت زبالاً، يا ليتني كنت غسالاً، فبكى الناس حوله من كلامه هذا، فلما بلغ كلامه سعيد بن المسيب رحمه الله -عالم المسلمين- قال: [[الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا وقت الموت، ولا نفر إليهم]] لأنهم لا يستيقظون إلا وقت الموت، ولا يتنبهون إلا في هذه الساعة، وإذا الأمر خرج من أيديهم، وإذا العمر ليس معهم، فيفيقون ويتذكرون، فإذا ما بأيديهم حيلة.

ولذلك الذكي كل الذكي الذي يعد لهذه الساعة، ولا يغتر بالشباب والصحة، لا تقل: إني شاب وسوف أتخرج، وسوف أحضر بعض الرسائل، وسوف آخذ بعض المناصب، ثم أستعد للموت، فإن هذا هو الغباء كل الغباء، وهذه البلادة كل البلادة، ومن أعطاك عهداً من الله أنك سوف تستمر في هذا العمر؟ ومن أعطاك من الله خبراً ميقناً أنك سوف تعيش حتى تتخرج؟ لا والله.

إن الموت معك، وإن ملك الموت ليصاحبك، ولكن يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:١١] أي: إن الموت معك، لكن المعقبات تحفظك حتى يأتي أمر الله، فإذا أتى أمر الله، تولى عنك هذان الملكان الحافظان، فقد يأتي أجلك وأنت في الطيارة في الجو، أو في السيارة، أو وأنت على كرسي الدراسة تستمع، وكلك آذان صاغية لما يقول الأستاذ، وإذا بك تفاجأ وأنت تنتقل إلى الدار الآخرة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>