للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[السعادة ليست في القوة والسلطان]

أبو مسلم الخرساني قتل ألف ألف -مليوناً من المسلمين- حتى تولى السلطان، ثم ما أمهله الله، فما بقي إلا سنوات فأخذه أبو جعفر المنصور، فذبحه كما تذبح الشاه.

وذهب الحجاج بن يوسف فقتل مائة ألف، وقتل العلماء، وأهان الصحابة، ثم ابتلاه الله بمرض، فكان يخور كما يخور الثور.

وأتى الوليد بن يزيد الفاسق فأخذ المصحف -وهو خليفة أموي كما يقول ابن كثير - فأخذ يضرب المصحف ويهجوه، ويتكلم فيه، فطورد حتى أُدرك، فأخذوا جلد حمار فأحرقوه في جلد الحمار: (وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) [إبراهيم:٤٥ - ٤٦] وحضرت الوفاة الخليفة المعتصم وهو العسكري الكبير وهو من أشجع الخلفاء فاتح عمورية الذي يقول فيه عمر أبي ريشة:

رب وا معتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم

لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم

أدركته الوفاة وهو فوق الأربعين، وظن أنه سوف يبقى إلى الثمانين؛ فلما حضرته الوفاة وكان العلماء بجانبه قال: أموت اليوم؟ قالوا: نعم تموت فقال للطبيب: انظر إليَّ -ذكر ذلك عبد الحق الأشبيلي في تذكرته.

كأنه يقول: غير معقول هذا! أنا شاب، فقالوا: ولو كنت شاباً فأخذ يبكي، ويتخبط بالأرض، ويقول: والله لو كنت أعلم أني أموت في شبابي؛ ما فعلت الفعل الذي كنت أفعله سبحان الله! يكون الناس في غفلة، فإذا ماتوا انتبهوا.

يبقى الإنسان في سكار وفي غفلة، وفي إعراض؛ فإذا نزل به الموت؛ انتبه كأنه قام من النوم ولذلك كثير من الشباب -إلا من رحم الله- يرى أنه لا يموت، لماذا؟ لأنه شاب، فكيف يموت وهو شاب؟!

وكثير من الأغنياء من السلاطين لا يرى أنه سيموت - نسأل الله العافية والسلامة- وهذا هو الغرور.

تنبهوا يا رقود إلى متى ذا الجمود

فهذه الدار تبلى وما عليها يبيد

الخير فيها قليل والشر فيها عتيد

والبر ينقص فيها والسيئات تزيد

فاستكثر الزاد فيها إن الطريق بعيد

وهذا هارون الرشيد أدركته الوفاة وهو في طوس وقيل طرطوس، فلما أدركته الوفاة؛ نزل في غدير، فرأى سمكةً كأنها خنجر فمد يده؛ فتسمم جسمه، فقال: أخرجوني للجيش، فأخرجوا الجيش له، وهو في سكرات الموت، فبكى حتى بكى الناس، وقال: يا من! لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه.

وهارون هذا هو ابن المهدي بن أبي جعفر المنصور، وكان يخرج في الشرفات، فإذا رأى السحاب تحداها وقال: أمطري حيث شئتِ فإن خراجك سوف يأتيني.

يقول: سيري حيث أردتِ في أي أرض هطلتِ، فإن تلك الأرض أنا أحكمها، لأنه يحكم إلى مشارف أسبانيا، وإلى السند وإلى طاجكستان.

فبنى هارون الرشيد قصراً فأدخل عليه الناس يهنئونه العلماء، والوزراء، والأمراء، والشعراء، فدخلوا جميعاً، يهنئونه ويمدحونه فهو الخليفة، ودخل في آخرهم أبو العتاهية، -وهو شاعر الزهد والحكمة- فوقف أمامه، فقال هارون الرشيد: ماذا تقول فيَّ وفي القصر يا أبا العتاهية؟ قال:

عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور

قال: ثم ماذا؟

قال:

يجري عليك بما أردت مع الرواح أو البكور

يعني تأتي عليك الأمنيات والمسرات، مع الرواح مع البكور، قال ثم ماذا؟ فرفع أبو العتاهية صوته يبكي وقال:

فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور

فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور

فبكى حتى نزل من على سريره.

نور الدين محمود زنكي من أعدل الحكام في الإسلام.

يقول ابن كثير عنه في البداية والنهاية: " رحم الله تلك العظام! أمر جنوده إذا انتصف الليل أن يضربوا له بالصولجان، فيقوم هو وذريته وأزواجه وبناته، فيصلون حتى الفجر، وكان كثير الصيام وكان متجهاً إلى الله من أعدل العدول في الأرض، وقد ذكروا في ترجمته أنه رأى في المنام أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: أنقذني يا محمود! فقام فزعاً من الليل، فتوضأ وصلى ركعتين، ثم عاد فنام، قال: فرأى الرسول عليه الصلاة والسلام في صورته يقول: أنقذني يا محمود! فتوضأ وصلى، ثم عاد فنام، فرآه عليه الصلاة والسلام يقول: أنقذني يا محمود! وإذا برجلين عليهما من الشعرة والهيئة كلبس المغاربة.

فقام في الصباح، فجمع العلماء وسألهم، فقالوا: كأن قبر الرسول صلى الله عليه وسلم يؤذى، أو كأنه يحفر حوله، وكأنه يؤذى في روضته عليه الصلاة والسلام، فأدرك الروضة.

فاستنفر الجيش من دمشق، جيشاً عرمرماً وكان هو قائد الجيش، وجعل القواد على الميامن والمياسر في الكتائب، ودلف حتى وصل إلى المدينة، وطوق المدينة، ثم عمل مأدبةً عظيمةً لأهل المدينة، وقال لا يتخلف عنها أحد، ومن تخلف عنها ضربت رأسه.

فذهب الجنود يحضرون الناس من بيوتهم للمأدبة خارج المدينة، وبسطت السفر، ومدت بالأطعمة؛ فلما أصبح الغداء، سأل جنوده: هل تخلف أحد؟ قالوا: ولا أحد، قال: ولا أحد! قالوا: ما تخلف إلا رجلان في المسجد النبوي، يذكران الله يقولان: لا يريدان الحضور، ولا يريدان الطعام فقد سئماه فخشينا من إحضارهما وإحراجهما، فتركناهما قال: عليَّ بهما.

فأُتي بهما، وإذا هما اللذان رأى في المنام، فجلدهما على رءوسهما وقال: ماذا فعلتما بقبر المصطفى صلى الله عليه وسلم فاعترفا، فقالا: نحن نصارى أتينا من عكا، وركبنا القوارب إلى جدة وقد أعطانا ملك عكا -وكان نصرانياً تابعاً لملك فرنسا الذي زحف بالزحوف الهائلة- وأعطانا مالاً هائلاً لحمل الجثمان إلى القارب في جدة، ثم أخذه إلى عكا.

قال: وهل حفرتم؟ قالوا: نعم نمد البساط في النهار ونجلس عليه ونحفر في الليل، وقد قاربنا القبر فأمر بهما فضربت رءوسهما على مداخل ثنية الوداع في الميمنة والميسرة، وعلقا بأرجلهما وتقدم ورأى القبر قد قارب؛ فصبه قيل برصاص وقيل بفضةٍ رضي الله عنه ورحم الله تلك العظام.

نور الدين هذا كان في حفل عسكري يتهيأ لفتح بعض البلاد، فأعجبته نفسه، كانت الخيول تمر آلافاً مؤلفة وكانت القادات والأعلام أمامها، فأتى أحد العلماء فلبس لباساً، من لباس الزهد، ودخل بيته وتوضأ وصلى ركعتين وقال: اللهم افتح لي قلب هذا الملك، ثم أتى ووقف أمامه بالعصا، وقال: عندي كلمات يا نور الدين محمود! قال: تكلم، قال:

مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور

إن قيل نور الدين جاء مسلِّماً فاحذر بأن تأتي ومالك نور

حرمت كاسات المدام تأففاً وعليك كاسات الحرام تدور

إلى أن يقول:

يوماً يشيب لهوله الولدان من خوفٍ ويأكل عظمه المجبور

هذا بلا ذنبٍ يخاف لهوله كيف المصر على الذنوب دهور

فسقط مغشياً عليه على الأرض من البكاء، ثم أمر بقطع هذا المهرجان، وكان هذا هو الدخول إلى القلوب التي ما وعت إلا بهذه الحكم، وهذه الاستطرادات من الوعظ من نثر وشعر.

<<  <  ج:
ص:  >  >>