الفائدة التاسعة عشرة: تواضع أبي بكر لـ عمر وأبي عبيدة، وإن من أسمى سماتهم التواضع لبعضهم، فإن أبا بكر يعرف أنه أول مسلم من الرجال، ويعرف أنه ذو سابقة، ولكن قال لـ عمر:[[يا عمر! ابسط يدك لأبايعك]] وهل تظنون أن عمر لو بسط يده سوف يقول أبو بكر: لا، أردت فقط أن أختبرك، لا والله، ليبايعنه وليجلسن معه وليذهبن، وليجعلنه خليفة، لأن الله عز وجل جعلهم هكذا خير أمة أخرجت للناس، ولذلك ولَّى الرسول عليه الصلاة والسلام على أبي بكر وعمر عمرو بن العاص وهما خير منه، وولى عليهم بعض الولاة، ورضوا به رضوان الله عليهم.
وفي الصحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما حضرته سكرات الموت قال:{أنفذوا جيش أسامة} وأسامة بن زيد كان عمره يوم أنفذه صلى الله عليه وسلم سبع عشرة سنة، وكان مولى من الموالي، وكان في جيشه عمر بن الخطاب وعثمان وعلي فلما توفي عليه الصلاة والسلام قال عمر لـ أبي بكر: أرى ألا ترسل جيش أسامة، قال: ولم؟ قال: إن العرب قد تكالبت علينا، وقد ارتد الكثير منهم عن الإسلام، وأخشى أن يدخلوا المدينة وليس لنا جيش، قال أبو بكر: والله لو أخذت الكلاب بعراقيبنا، فلا بد أن أمضي جيش أسامة، فودع أسامة وأخذ بلجام فرسه وأبو بكر يمشي على قدمه في الأرض وهو يكلم أسامة، فيقول أسامة: يا خليفة رسول الله! أنزل أو تركب؟ قال: لا والله لا تنزل ولا أركب، وما علي أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله -وكأن أبا بكر ما غبر قدمه إلا تلك الساعة، وهو منذ أن عرف لا إله إلا الله مغبر قدمه ورأسه وجسمه في سبيل الله عز وجل، فرضي الله عنه وأرضاه، ثم قال: يا أسامة! أتأذن لي بـ عمر لأستعين به؟ قال: نعم، فأذن له فعاد من الجيش.
إذاً: فتواضع أبي بكر لـ عمر ولـ أبي عبيدة تواضع جم، يقول الذهبي: كان من خيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأحسنهم خلقاً أبو عبيدة عامر بن الجراح، ولذلك لما حضرته الوفاة، قال له أصحابه: -وقد طعن بالطاعون- ما هي خير ليلة مرت بك في حياتك؟ قال: ليلة ما أنساها من ليالي اليرموك -المعركة التي وقعت بين المسلمين وبين الروم وكان قائدها أبا عبيدة أمير الأمراء- قال: رأيت الجيش نام ذات ليلة في ليلة شاتية، كثير بردها، وكثير مطرها، فقمت فنظرت إليهم وقد ناموا جميعاً، فأيقظت امرأتي وقلت: هل لك بليلة تشترين بها الجنة؟ قالت: نعم، أطوف أنا وإياك على هذا الجيش نحرسه في هذه الليلة -وهو الأمير- فكان يطوف رضي الله عنه وأرضاه، فإذا وجد رجلاً لحافه ليس مغطىً عليه رد عليه لحافه، حتى أصبح الصباح، ثم صلى بالناس الفجر، فهي من خيرة الليالي عنده، ولذلك يقول عمر للصحابة في المدينة تمنوا، فتمنوا أمنيات، فقال: أما أنا فوددت أن لي ملء هذا البيت رجالاً مثل أبي عبيدة، وسافر عمر رضي الله عنه وأرضاه إلى الشام، فأتى الأمراء وهم أربعة، شرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص ويزيد بن أبي سفيان، وأميرهم جميعاً أبو عبيدة، فـ أبو عبيدة كان في مرحلة وراء هذه المرحلة، فلما أصبح على مشارف الشام لقيه الأربعة الأمراء بجيوشهم، فلما رأى عمر رضي الله عنه الخيول وعليها الأبطال والسيوف، وأهبة هائلة ما سمع الناس بمثلها، فصد رضي الله عنه وأرضاه الطريق، ومعه خادمه، فلقيه عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين! تهيأنا لك، ونريد أن ترهب الأعداء، وقد صففنا نحن الأربعة الأمراء بجيوشنا، ثم صددت عنا، قال: اسكت يا عمرو! نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله، ثم قال: ادع لي أخي أبا عبيدة فأتى أبو عبيدة، وهو على ناقة -وهذا من تواضعه رضي الله عنه وتقشفه وزهده قال ابن كثير: حزامها ليف- فأتى وليس عليها سرج حتى اقترب من عمر فتعانقا وهما يبكيان؛ لأنهما من زمن طويل لم ير أحدهما الآخر، ثم قال عمر: تعال يا أبا عبيدة! مل بنا نتذكر أيامنا التي قضيناها، مع رسول الله صلى عليه وسلم، وهذه هي المحاسبة والمرابطة للنفس فمالا عن الطريق وهما يبكيان، فلما أتى المساء قالوا لـ عمر: أين تنزل يا أمير المؤمنين الليلة؟ -أي: أين تنام- قال: أنزل عند أخي أبي عبيدة، فقال أبو عبيدة: لا، انزل عند بعض هؤلاء الأمراء لا تعصر عندي عينيك، يعني: تبكي عندي، قال: لأنزلن عندك، فاستضافة في تلك الليلة فقدم له أقراصاً من شعير، فقال له عمر: أما عندكم شيء من متاع، قال: لا، صرفنا ما أعطيتمونا، أي: من العطاء ومن المال في مصارفه، وهذا زادنا وطعامنا، فأكل عمر وهو يبكي.
ويقول: غرتنا الدنيا كلنا يا أبا عبيدة! إلا أنت، فلما أتى النوم، قدم له شملة، قال: هذا فراشنا، فالتحف عمر نصفها وافترش نصفها، وأخذ يبكي، فأتى أبو عبيدة، ووقف عند رأسه وقال له: أما قلت لك في النهار: إنك سوف تعصر عينيك عندي! رضي الله عنهما وأرضاهما.