للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[وفاة أبي بكر واستخلافه لعمر]

هذه داهية الدواهي، آخر يوم في حياته، أخرج سيف والحاكم عن ابن عمر: [[كان سبب موت أبي بكر، وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم]] كمد فما زال جسمه يضوي ويضوي حتى مات -يضوي: أي ينقص- لما مات الرسول عليه الصلاة والسلام أتاه هَمَّ وحزن، فكان يذوب ويذوب كما تذوب الشحمة ثم مات.

وكان سبب موته أنه أتته حمى قبل أن يموت بأيام، فلما أتى يوم الاثنين، قال: [[أي يوم هذا؟

قالوا: يوم الاثنين في الصباح.

قال: أرجو الله أن أموت في هذا اليوم، متى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قالوا: مات يوم الإثنين.

قال: أموت إن شاء الله يوم الإثنين]] فمات في آخر النهار، وهذه حكمة من الله، كان وفاته يوم الإثنين، ولكن ما مات إلا بعد ما أصلح الأمة، وسوف تسمعون أخباره.

وأخرج ابن سعد والحاكم بسند صحيح عن ابن شهاب أن أبا بكر والحارث بن كلدة كانا يأكلان خزيرة أهديت لـ أبي بكر -نوع من الطعام- فقال الحارث لـ أبي بكر: ارفع يدك يا خليفة رسول الله، والله إن فيها لسم سنة -أي مسمومة لسم سنة- وأنا وأنت نموت في يوم واحد، فلم يزالا عليلين حتى ماتا في يوم واحد عند انقضاء السنة.

ودخلوا على أبي بكر الصديق، كما روى ابن سعد وابن أبي الدنيا، قالوا: يا خليفة رسول الله! ألا ندعو لك طبيباً ينظر إليك؟

قال: قد نظر إليَّ الطبيب.

قالوا: ما قال لك؟

قال: إني فَعَّالٌ لِمَا أرِيدُ، أي: وصل الموت، يقول أحد شعراء العرب:

مات المداوي والمداوى والذي صنع الدواء وباعه ومن اشترى

وهذا البيت ينسب إلى أبي العتاهية، وقيل لـ ابن الرومي.

نزل به الموت، يقولون: نحن ندعو لك طبيب، نبحث لك عن طبيب.

قال: هيهات! يقول الطبيب: إني فعال لما أريد.

ودخلوا على ابن تيمية، وهو في مرض الموت رضي الله عنه، وكان يتقلب من ألمٍ ألمَّ به، والله يشدد على الصالحين في سكرات الموت حتى يمحص ذنوبهم، واستدل على ذلك بحديث رواه الترمذي: {المؤمن يموت بعرق الجبين}.

فقالوا لـ ابن تيمية: ماذا تشتكي؟ قال:

تموت النفوس بأوصابها ولم يدرِ عوادها ما بها

وما أنصفت مهجة تشتكي أذاها إلى غير أحبابها

هذه من أجمل ما قيل.

ودخلوا على أحد الصالحين، قالوا: كيف بك؟ أتريد الطبيب؟ قال: تريدون أن تعيدوني إلى الشباب!! {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} [يس:٦٨] ثم قال:

أترجو أن تكون وأنت شيخ كما قد كنت في عصر الشباب

لقد كذبتك نفسك ليس ثوب بلي كالجديد من الثيابِ

ودخل عليه بعض الصحابة، فقال له قائل: [[ما أنت قائلٌ لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا، وقد ترى غلظته، وشدته، وحزمه، وقوته، فقال أبو بكر: بالله تخوفني؟

أقول لله عز وجل إذا سألني: اللهم إني استخلفت عليهم خير أهلك، أبلغ عني ما قلت من وراءك]] أي: من المسلمين، أخبرهم أني استخلفت عليهم خيرهم.

وكتب له، وكان الكاتب عثمان، وكان أبو بكر يملي على عثمان، وكان أبو بكر على مخدة وكان مريضاً، وعثمان كاتب الوصية، وصية المسلمين، وكان عمر يبكي في بيته، لكن كان عمر يزور أبا بكر كثيراً، وفي الأخير خرج يبكي ذاك اليوم لأنه عرف أن أبا بكر سيموت، فتأخر علَّ الله أن يصرف عنه الخلافة لأحد من الناس؛ لأنها مشكلة، كارثة، كيف يتولى عمر الأمة.

وفي أثنائها قال أبو بكر لـ عثمان اكتب:

[[بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها إلى الله، وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها -وكان عثمان يكتب الرسالة ودموعه تسقط على القرطاس، هذا عثمان بن عفان الخليفة الثالث- حيث يؤمن الكافر ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آلُ الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيراً -يقول: والله إني اجتهدت- وإني اجتهدت في هذا فإن عدل في الحكم فذلك ظني به وعلمي فيه -يقول: والله إني أحسنت الظن به، إن عدل بعدي فعسى الله أن يكون، وهذا ظني به- وإن بدل فإن لكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت، ولا أعلم الغيب: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:٢٢٧]-يقول: انتبه يا عمر - والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته]].

ثم أمر بالكتاب فختم، فقام به عثمان، وتباكى الصحابة وعثمان يسلم الخطاب لـ عمر، ومعه خطاب آخر يقول: [[يا عمر اتق الله لا يصرعنك الله مصرعاً كمصرعي]] فوصل الخطاب، ففتحه عمر، وبكى وأبكى من معه من أهل البيت، ثم جلس، فقال: ماذا أفعل؟

قالوا: انظر ماذا فعل أبو بكر، فقدموا له بقية التركة، قال ابن سعد والحاكم عن ابن مسعود قال: ما قدموا له إلا شيئاً يسيراً فبكى عمر وقال: [[أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر]] رضي الله عن أبي بكر.

<<  <  ج:
ص:  >  >>