للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[استنتاجات هرقل]

انتهت هذه الأسئلة؛ وهي أحد عشر سؤالاً من أعظم الأسئلة في الرسالة، دلت على عظم عقل ذاك الملك الذي سألها، ودلت على صدق أبي سفيان الذي أجاب عليها فإليكموها بالتفصيل، والذي يفصلها هرقل.

ثم قال لهم: إني سألتكم عن نسبه، فقلتم: إنه فيكم ذو نسب، والله عزوجل يبعث الأنبياء في نسب من قومها.

فنسبه صلى الله عليه وسلم أرفع نسب:

نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عموداً

قال: وسألتك: هل قال أحد هذه المقالة قبله؟ فقلتَ: لا، فقلتُ: لو أنه قال أحد هذه المقالة لقلت رجلٌ يقلد غيره.

وقلت لي: إنه ليس في آبائه من ملك؛ فلو كان من آبائه ملك، لقلت: رجلٌ يطلب ملك آبائه، ومجدهم وتراثهم.

فلم يكن من آبائه ملك؛ لأن العرب في الجاهلية تطلب ملك آبائها ومجدها؛ حتى تريق في ذلك الدم الأحمر، أما سمعتم ل امرئ القيس يوم قال:

ولو أنما أسعى لأدنى معيشة كفاني ولم أطلب قليل من المال

ولكنما أسعى لمجدٍ مؤثلٍ وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي

أي: أنه يطلب ملك آبائه.

ثم قال هرقل: وسألتك: أضعفاء الناس يتبعونه أم أشرافهم؟ فقلت: ضعفاؤهم؛ فعلمت أنه دين من عند الله، فإن الضعفاء أتباع الرسل.

وأول من يستجيب لدعوة الله هم الضعفاء والمساكين، وأول من يعادي الرسل هم المترفون؛ لأن فيها إضراراً بمصالحهم ودكتاتورياتهم في المجتمعات، فهم ينصبون لها العداء وهذا الدين للمستضعفين وللسادة سيان، فهو يساوي بين الأحمر والأسود، وبين الغني والفقير، وبين الكبير والصغير، وميزانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣] يرفع بلال بن رباح العبد المولى، فيجعله سيداً من سادات المسلمين، ويبني الله له قصراً أبيض كالربابة في الجنة، ويخسئ هذا الدين أبا جهل؛ وهو فطحلٌ، صنديد من صناديد المشركين، ويخسئ أبا لهب؛ عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عارض هذا الدين.

إذاً: فهو يقرب الضعيف لتقواه، ويرفع المسكين لمحبته لربه ومولاه، ويخسئ الفاجر المتكبر ولو كان صدراً وسيداً في قومه.

ثم قال: فقلت لك: أيزيدون أم ينقصون؟ فقلت لي: بل يزيدون؛ فعلمت أن هذا الدين سوف يستمر، وأن اتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام يزيدون.

ثم قلت لك: هل يرتد أحد منهم سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فقلت لي: لا؛ وكذلك الإيمان حين يخالط بشاشته القلوب.

إنه دينٌ تحبه القلوب، وترتاح له الأرواح.

إنه دينٌ محبوب، إذا أدخله الله في قلب العبد، فلو أعطى له كنوز الدنيا، وخزائنها ذهباً وفضة على أن يعود عن دينه ما عاد طرفة عين؛ إذا ذاق حلاوة الإيمان، لا يعود عن دينه ولو يقذف في النار، فبشاشة الإيمان إذا دخلت في القلب لا ينتكس صاحبها، ولا يشتري الضلالة بالهدى، ولا الغي بالرشاد، ولا الظلام بالنور: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:٢٢] وقوله عز من قائل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:١٢٥].

ثم قال: وسألتك: هل جربتم عليه كذباً؟ فقلت لي: لا؛ فوالله ما كان له أن يدع الكذب عليكم ويكذب على الله.

فهو ليس كذاباً، وما وجهه بوجه كذاب، بل هو صادق: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:٣٣] {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:١ - ٤].

ثم قال: وسألتك: هل قاتلتموه؟ فقلت: نعم، تُغلبون تديلون وتدالون؛ وكذلك الرسل تبتلى حتى تكون لهم العاقبة.

وسألتك: هل يغدر؟ قلت: لا؛ وكذلك الأنبياء لا تغدر.

ومحمد صلى الله عليه وسلم لا يكذب ولا يغدر.

وإذا وعدت وفيت فيما قلته لا من يكذب فعلها أقوالها

أنت الشجاع إذا لقيت كتيبة أدبت في هول الردى أبطالها

فهو لا يكذب لأنه شجاع، ولا يجبن لأنه صادق.

قال: وسألتك: بماذا يأمركم؟ فأخبرتني أنه يأمركم بعبادة الله، وبالصلاة والصدق والعفاف والصلة؛ وهذه دعوة الرسل.

ثم قال هرقل لـ أبي سفيان: وقد كنت أعلم أنه سوف يملك مكان قدمي هاتين.

وصدق هرقل فما هي إلا خمسٌ وعشرون سنة، وإذا بكتائبه صلى الله عليه وسلم تتدفق كأمواج البحر، عليها قيادة أبي سليمان؛ سيف الله المسلول، خالد بن الوليد يخوض المعركة، ويرفع لا إله إلا الله، وإذا بـ هرقل يولي الأدبار، وينظر إلى قصره في الشام، ويقول: سلامٌ عليك يا سورية، لا لقاء بعد اليوم.

ويدخل خالد، ويجلس على سريره ويقول: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ} [الدخان:٢٥ - ٢٨].

قال هرقل: ولو كنت أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه أي لسافرت إليه في المدينة لكنه يخاف من قومه ومن شعبه ومن دولته أن يقتلوه.

وقال: ولو كنت عنده؛ لغسلت الغبار عن قدميه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>