للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تجنب التهويل في نقل الأخبار]

ثانية المسائل: أن الواجب على المسلم أن يتجنب التهويل في نقل الأخبار فلا يزيد من كيسه شيئاً، كما يقول الحافظ الذهبي وهو ينقل عن بعض الناس إذا زاد كلمة، قال: هذه من كيس فلان والسلام، يعني: ليست من الحديث، وبعضهم يهول الأخبار، ويبالغ، ويزيد، ويدبج حتى يخرج الخبر عن أصله.

والمبالغة في ذلك لها رد فعل؛ فإنه قد تصاب النفوس بالإحباط فتكون النتيجة عكسية، بعد أن تعرف الشيء على حقيقته، كمن بالغ في وصف عالم من العلماء مثلاً وقال: ما رأينا أورع ولا أصدق ولا أزهد منه، يقوم الليل كله، ويحفظ الكتب الستة، وكأن القرآن أمام عينيه، وهو علامة الزمان، فإذا وجدت العالم وجالسته وشافهته؛ اختفت الصورة التي في ذهنك عن الصورة التي أمامك فأصبت بالإحباط، وأنت لو لم يبالغ لك في هذا العالم كنت سلمت بما رأيت من الخير فيه، لكن بالصورة الخيالية على المثالية ينعكس الحكم في ذهنك، وهذه تضخيم أخبار الأذهان على ما في الأعيان.

وهذه تسمى خيبة الأمل، فيقولون في الأخبار: أصيب بخيبة أمل؛ لأنه كان يتأمل شيئاً فلما وجده ورآه وجده أقل مما أمله، ويروى في السير أن جرير بن عبد الله البجلي، وفد على رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحدث عنه كثيراً فلما رآه قال: {يا جرير! ما حُدث لي عن أحد إلاَّ وجدته أقلَّ مما ذكر لي، إلا أنت فكنت أعظم مما ذكر لي} وقال بعض أهل السير: ويعزى هذا لبعض الكتبة العصريين، كل من تُحدث عنه في التراجم والسير والتاريخ فاعلم أنه أقلَّ مما تحدث عنه مهما كان، إلا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإنه أعظم مما تقرأ وتسمع، ويروى عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وقد التقى ابن الشجري النحوي والزمخشري؛ وهما نحويان في مجلس فقال ابن الشجري للزمخشري: والله ما مثلك أيها الزمخشري إلا كما قال الأول:

كانت محادثة الركبان تخبرنا عن جعفر بن فلاح أروع الخبر

حتى التقينا فلا والله ما سمعت أذني بأحسن مما قد رأى بصري

يقول: أنت أعظم مما سمعنا عنك في خبر طويل.

ومقصودي من هذا أن المبالغة تصيب الناس بالإحباط.

ومثال آخر: المبالغة في ذكر مكاسب الجهاد الأفغاني إلى درجة التهويل، فكانت النتيجة عكسية بعد أن اشرأبت النفوس وعلقت آمالها بهذا الجهاد، وأصبحت آمال المسلمين تتعلق به، ونحن من أنصار الجهاد الأفغاني، ونسأل الله أن ينصرهم على عدوهم، وأن يثبت أقدامهم، لكن المبالغة إلى حد الإفراط دخلت في هذه الأخبار على بعض النفوس التي تنال من هذا الجهاد، فيقال: هذا جهادكم الذي بالغتم فيه بالأمس وقلتم عنه كذا وكذا، ويتناسى بعض الناس كل حسنة للجهاد بسبب الإحباط، مع العلم أنه لو نقلت الصورة كما هي، ما وقع الناس في هذا الإرباك.

ومثل ذلك المبالغة في الكرامات: فهذا ينشق له القبر بعد أن يقتل يصافح والده؛ فأين السند الصحيح لهذه القصة؟

وأيضاً المبالغة في مكاسب الصحوة، وإنجازاتها حتى كأن الناس كلهم عادوا إلى الله، فيقول لك أحدهم: رأيت المنطقة، أو القرية، أو المدينة الفلانية، فما رأيت واحداً منهم غير ملتزم، بل كلهم ملتزمون، وهذه مبالغة لأنها تخالف أصول الكتاب والسنة، والله يقول: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:١١٦] ويقول: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:١٣] ويقول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:١٠٣]:

وقليل من الخفاء الترجي وكثيرٌ من الأباة الخفاء

سامحن بالقليل من غير عذل ربما أقنع القليل وأرضى

وقد كانوا إذا عدوا قليلاً فقد صاروا أقل من القليل

وقال السموءل:

تعيرنا أنا قليلٌ عديدنا فقلت لها إن الكرام قليل

وما ضرنا أنا قليل وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل

فالنطف العذاب: أي: الغدران العذبة الماء هي أقل ماءً من البحار الآسنة المتكدرة، فكيف يلغى هذا المفهوم في الكتاب والسنة وفي كلام العقلاء، ويقول: الناس كلهم مهتدون وليس فيهم عاصٍ، وهذا ليس بصحيح.

أذكر على سبيل المثال: أنَّا كنا في صالة انتظار ننتظر رحلة من الرحلات، ونظرت وإذا أكثر الناس غير ملتزمين بالسنة، قليل من أراهم يعدون على الأصابع من مئات في الصالة، وكل هؤلاء مخالفون للسنة لا أقول غير مسلمين -مسلمون كلهم يصلون ويصومون- ولكن ليسوا على سنة محمد عليه الصلاة والسلام التي بعث بها، والتي رضي الله بها للناس، وتفاجئ مثلاً في مجمعٍ عام في زواج أو لقاءٍ أو حفل أن القليل ملتزم، وأن الكثير غير ملتزم بالسنة، فأين مصداقية هذا من الأخبار المهولة المبالغ فيها؟!

<<  <  ج:
ص:  >  >>