للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الداعية متعدد المواهب]

أما بعد:

فإن الداعية قد يكون غنياً كسليمان، وقد يكون فقيراً كعيسى، وقد يكون صحيحاً كإبراهيم، وقد يكون مريضاً كأيوب، وقد يطول عمره كنوح، وقد يقصر عمره كيوشع، وقد يكون ملكاً كداود، وقد يكون خياطاً كإدريس، وقد يكون راعياً للغنم كموسى، وقد تمر به الحالات جمعياً من غنى وفقر، ونصر وهزيمة، ونعيم وبؤس، وصحة ومرض، وعافية وبلاء، كمحمد صلى الله عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وسلم.

لأجل دينك ذاق القتل من قتلوا كأنما الموت في ساح الوغى عسلُ

ترى المحبين صرعى في ديارهم كفتية الكهف للرضوان قد نقلوا

وقد يكون الداعية واسع الخير، متعدد المواهب، كثير الإحسان، عظيم البر، كـ أبي بكر الصديق، يدعى من أبواب الجنة الثمانية، فلله دره، ما أجمله! ما أقواه! ما أصدقه!

وقد يكون صارماً حازماً قوياً شديداً في الحق، ذا صولة في الدين، ذا هيبة في الملة، كـ عمر بن الخطاب.

وقد يكون هيناً ليناً، سهلاً قريباً حيياً حليماً سخياً كـ عثمان بن عفان.

وقد يكون مقداماً شجاعاً، أبياً مضحياً فدائياً بطلاً كـ علي بن أبي طالب.

وقد يكون الداعية بحراً في العلم، دائرة معارف، موسوعة في الشريعة كـ ابن عباس.

وقد يكون خطيباً لوذعياً يرسل الكلمة كالقذيفة، ويبعث الحرف كالشهاب، ويطلق الجملة كالبركان، كـ ثابت بن قيس بن شماس.

وقد يكون الداعية شاعراً، يرسم الحرف في القلب، ويصنع البيت كالضياء، وينشد القصيدة كقطعة الماس كـ حسان بن ثابت.

وقد يكون للداعية حشم وخدم، ومال وجمال، وعيال كـ عبد الرحمن بن عوف.

وقد يكون الداعية فقيراً معدماً مملقاً، لا بيت ولا قصر ولا دار ولا عقار، ولا دينار كـ أبي ذر.

وقد يتولى الإمامة كـ معاذ، ويتولى القضاء كـ علي، والأذان كـ بلال والمواريث كـ زيد، والقيادة كـ خالد، والإمارة كـ أبي عبيدة، وقد يتكلم الداعية من بلاط السلطان كـ الزهري، وقد يتكلم من تحت الأرض من القبر كـ الزركشي، وقد يبجل ويحتفل به كـ مالك بن أنس، وقد يذهب دمه هدراً ورأسه شذراً كـ أحمد بن نصر الخزاعي.

الداعية كالهدهد، قطع الفيافي والقفار، ليبلغ رسالة الواحد القهار، العظيم الغفار، جلّ في علاه، يقول أبو معاذ الرازي: ويل لمن كان الهدهد خيراً منه، فكيف يبلغ الهدهد التوحيد وأنت ما بلغت التوحيد: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النمل:٢٥] وقد يكون الداعية كالنملة، يحذر قومه، وينذر بني جنسه: {لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:١٨] وكالنحلة يجمع أطايب الحديث ويكنز أحسن المعرفة: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً} [النحل:٦٩].

فيا حب زدني في هواك صبابة ويا قلب زدني في هوى مهجتي حبا

لعلي إذا جئت المحصب من منى نحرت فؤادي كي أفوز به قربا

<<  <  ج:
ص:  >  >>