[من هو معتق نفسه ومن هو موبقها؟]
قال: {فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها}.
والوبق: الهلاك، وأوبقه: أهلكه، وموبقاً: مكاناً ضيقاً، فالإنسان بعد ما جرح بالنهار يكون على أحد ضربين:
رجل أعتق نفسه وشراها من الله، وأعتقها من الذل ومن الهلاك، فهذا سعيد، ورجل أوبق نفسه في الذل والهلاك، فهذا شقي والعياذ بالله، ولذلك قال بعض العلماء: عليك أن تبحث في صحائف أعمالك وقت النوم، إذا أتيت إلى الفراش واضطجعت، فانظر ماذا فعلت: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام:٦٠] فتنظر في صحيفتك وماذا فعلت؟ وماذا قدمت؟ وهل أحسنت أم أسأت؟ واعلم أن منزلتك في الدنيا عند النوم كمنزلتك يوم العرض الأكبر.
أما العتق الحقيقي فهو أن تعتق رقبتك من النار، والعبد الحقيقي هو عبد شهوته، وعبد بطنه، وعبد درهمه، وعبد منصبه، قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح: {تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش}.
قال بعضهم:
أطعت مطامعي فاستعبدتني ولو أني قنعت لكنت حراً
وقال الآخر في عبودية الواحد الأحد:
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
يقول: أنا زادني الشرف أنك دعوتني {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر:٥٣] قال: فادعني بهذا لأكون عبداً لك؛ لأن أهل العلم يقولون: من لم يكن عبداً لله كان عبداً لغيره، حتى تجد بعض الناس لا يتشرف بحمل عبودية الله، فتجده عبداً لغيره، ولو كان فريقاً ولو كان عليه ست عشرة نجمة، لكنه إذا لم يكن عبداً لله كان عبداً لغيره، حتى تجده من أذل الناس للناس ومن أعصى الناس لرب الناس، أما مع الله فمتمرد قوي، وأما مع هؤلاء فأضعف الناس، حتى يرتعد ويختلط ويرتفع عنه القلم من الخوف، يقول أحدهم:
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
وبعض الناس يغضب لعبوديته هذه، فتجده يقاتل على الأرض وعلى السيارة وعلى العمارة، شجاعته فقط في أمور الأرض، وهذا حال غالب الناس وأقولها صراحة: نحن شجعان عند الأراضي حتى يقول أحدهم: والله لا تأخذ منها شبراً واحداً لو أذهب أنا وأسرتي.
تغني بك الدنيا كأنك طارق على بركات الله يرسو ويُبْحِرُ
رفيق صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر
بالمسدس عند المحكمة وفي مجامع الناس ويقول: والله لا أقدم ولو شبراً واحداً، ولو أذهب وأسفك دمي، لكن المنكرات والفواحش والفجور والتعدي على الدين وانتهاك الحرمات وضياع الأمة وضياع مبادئ الأمة وضياع إياك نعبد وإياك نستعين لا يغضب لها غضبة ولا يتحرك حركه، وإذا كلمته يقول: كُلْ وعش واسكت، هذا البطل صاحب الأرض الذي يغضب للسيارة أو للعمارة.
فكيف كان خالد؟ خالد قدم جميع أمواله في سبيل الله، ومع ذلك كان خالد إذا سمع أحداً يتعرض لكلمة التوحيد حملقت عيونه وذهب خالد إلى قبيلة من قبائل العرب سيدها مالك بن نويرة، وكان بطلاً، فقال خالد: ادفع الزكاة قال: الزكاة التي يطلبها صاحبكم؟ -يعني: الرسول عليه الصلاة والسلام- وهذه كلمة باردة، سامجة لا تدخل في مزاج، قال خالد: سبحان الله! وليس بصاحبك يا عدو الله! والله لأذبحنك، ثم تقدم إليه فقتله، فقالوا: تسرع خالد ولذلك قال أبو بكر: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، وخالد قتله؛ لأنه سمع كلمة لا يستطيع أن يتحملها، كل شيء إلا هذا.
حتى أحد الخلفاء دخل عليه القاسم بن عبيد الله أحد الوزراء فقال في كلمة له عن التدرج في المناصب: الإنسان يتدرج في المناصب حتى يصل إلى ما وصله الله، مثل الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- كان راعياً ثم تاجراً مع خديجة ثم ارتقى به الحال حتى صار رسولاً، فقام الخليفة عليه فوجهه إلى القبلة وذبحه: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:٣٦] ذبحه لكن على الطريقة الإسلامية.
والجعد بن درهم هذا قال: ما كلم الله موسى تكليماً، ولا اتخذ الله إبراهيم خليلاً، قال خالد بن عبد الله القسري حاكم العراق: قيدوه، فقيدوه، فلما أتى عيد الأضحى صلى بالمسلمين في الكوفة وقال: يا أيها الناس ضحوا تقبل الله أضحياتكم فإن مضحٍ بـ الجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، ثم نزل ومعه الخنجر قال: وجهوه إلى القبلة فبرك على صدره اثنان ثم بدأ بسم الله الرحمن الرحيم فذبحه، فيقول ابن القيم يمدح خالداً:
ولأجل ذا ضحى بـ جعد خالد القسري يوم ذبائح القربان
إذا قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان
ومن أراد أن يذبح فليذبح مثله البدنة عن سبعة، وإن كانت الشجاعة اليوم تستغل لخدمة الدنيا وهذه الهمم القاصرة، وهذه والله الطموحات الأرضية الطينية التي تنهار أمام طموحات خالد بن الوليد وطارق وصلاح الدين وعظماء الإسلام.