حتى إنه في ليلة من ليالي أهل السمو العلمي كان إسحاق بن منصور تلميذ أحمد بن حنبل في خراسان، فرجع بعدما روى الحديث سبع سنوات، وكتبه في قراطيس، فأخذ القراطيس معه في السفر، فأمطرت السماء، فوضع الكتب والقراطيس والدفاتر تحت بطنه، واحتضنها في الليل والبرد يصب على ظهره، والمطر البارد والريح تَسُفُّ على وجه، وهو يحتضن دفاتره؛ لئلا تبتل بالماء، بعد رحلة سبع سنوات، ثم عاش طويلاً، ثم مات فرآه أحد الصالحين في الجنة، قال: ما فعل الله بك؟ قال: غفرَ لي بليلة المطر، يوم انحنيت على الدفاتر، يوم حضنت أوراقي، غفر الله لي بتلك الليلة.
وانظر إلى بعض الصالحين، يُرسل نشيداً إلى الواحد الأحد، لكن ينظمه بحبات قلبه، يقول أولاً نثراً:
يا رب! إن أحبَّ كُثَيِّرٌ عَزَّة، وأحبَّ غيلان مية، فاجعل حبي فيك.
يا رب! إن أحب عنترة عبلة، وأحب قيس ليلى، وأحب الآخر سلمى، فاجعل حُبي لك وحدك، ثم نظَمَها شعراً فقال:
إذا كان حُبَّ الهائمين من الورى بـ ليلى وسلمى يسلب اللب والعقلا
فماذا عسى أن يصنع الهائم الذي سرى قلبه شوقاً إلى العالم الأعلى
أُفٍّ على الوتر أُفٍّ على الناي أُفٍّ على الغناء أُفٍّ على الضياع أُفٍّ على حياة اللهو والغرام والهيام، إن لم تكن المحبة للواحد العلام، الذي بنى دار السلام، فلما انتهى من بنائها قال: تكلمي وعزتي وجلالي، قالت:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}[المؤمنون:١ - ٢] قال: وعزتي وجلالي، لا يجاورني فيك بخيل.
هذه مسيرة الصالحين، ولكن ينحرف بعض الناس إلى هواه، إلى العيون السود، إلى الخدود، فيقول ابن زُريق في بغداد وهو هائم بامرأة:
لا تعذليه فإن العذل يوجعه قد قلت حقاً ولكن ليس يُسْمِعه