أرسل عمر بن الخطاب سعيد بن عامر إلى حمص والياً وأميراً، وكان سعيد بن عامر من أزهد الناس وأعبدهم، ومن أصدق الناس مع رب الناس، فذهب سعيد بن عامر فتولى ولاية حمص، ومكث عندهم سنوات، وكان من خيرة الناس، يعيش عيشة الفقير، ومرَّ عمر على أمرائه يسألهم، ويسأل الرعايا عن الأمراء، ويحاكمهم أمام الناس، فلما وصل إلى حمص سأل أهل حمص عن سعيد بن عامر، فقالوا: فيه كل خير، من أصدق الناس، ومن أعبدهم وأزهدهم لولا أن فيه أربع خصال، قال عمر: وما هي؟ قالوا: لا يخرج لنا حتى يتعالى النهار -أي: يتأخر في دوامه- قال عمر: هذه واحدة -وعمر عنده درَّة، يؤدب بها-.
قال: والثانية؟
قالوا: وله يوم في الأسبوع لا يخرج إلينا فيه.
قال: والثالثة؟
قالوا: لا يخرج إلينا في ليل مهما طرقنا على بابه.
قال: والرابعة؟
قالوا: إذا أصبح في مجلس الحكم أُغمي عليه حتى يُرش بالماء.
قال عمر وقد ترقرقت عيناه بالدموع: اللهم لا تخيب ظني في سعيد بن عامر، قم يا سعيد! رد على نفسك -هذا حكم ومناصفة، والرعية جلوس- قال سعيد: والله لوددتُ أن أستر هذا الأمر لكن ما دام أنهم تكلموا فأما قولهم يا أمير المؤمنين: أني لا أخرج إلا إذا تعالى النهار، فامرأتي مريضة وليس لي خادم، فأجلس في بيتي، وأصنع طعام إفطاري، وأصلي الضحى، ثم أخرج إليهم.
قال: والثانية؟
قال: وأما قولهم: لا أخرج لهم بليل، فقد جعلتُ لهم النهار، وجعلتُ لربي الليل أصلي وأدعو الله حتى السحر.
قال: والثالثة؟
قال: وأما قولهم: إن لي يوماً لا أخرج فيه إليهم، فيوم أغسل ثيابي فيه.
قال: والرابعة؟
قال: وأما الرابعة فإنني حضرتُ مقتل خبيب بن عدي في مكة وأنا مشرك وهو مسلم فما نصرتُه، فكلما تذكرتُ ذاك اليوم أُغمي علي، فتهلل وجه عمر وقال: الحمد لله الذي لم يخيب ظني فيك، قال سعيد بن عامر: يا أمير المؤمنين! والله لا أتولى لك ولاية بعدها أبداً.
ثم ترك الولاية وخرج، ولكن ما تركه عمر يخرج حتى حاسبه في الأموال وفي الخزائن وفي الأحكام، وعرض عليه الدواوين، فوجده ما أخذ درهماً ولا ديناراً، وإنما خرج كما دخل، بصحفة وشملة وعصا.