[تعريف العبادة]
وفي الحديث قضايا:
أولها: سند الحديث صحيح من طريق مسلم، ومسلم يشترط المعاصرة وإمكان اللقيا، ولا يشترط أن تحدث اللقيا بين الشيخين، لذلك هو يستهل صحيحه بهجوم صاعق على الذين يخالفونه في هذه القاعدة، ويلومهم على المخالفة، وقال: من يشترط هذا؟! وعمل الناس في الحديث على غيره!
ثانيها: في غير الصحيح وردت زيادات توقف في صحتها بعض الحفاظ ومجالها بحث آخر.
يقول سبحانه وتعالى: يا عبادي! وأشرف لفظ تسمى به أن تكون عبداً لله.
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
والعبودية لفظ مجمل يحتاج أهل السنة والجماعة إلى تفصيله للناس.
قيل في تعريف العبادة: هي أداء المأمور واجتناب المحظور.
وقيل في العبادة -وهذا تعريف طلق بن حبيب - هي: أن تعبد الله، على نور من الله، ترجو رحمة الله، وأن تجتنب معاصي الله، على نور من الله، تخاف عذاب الله.
وقيل في العبادة: هي أن تكون على الصراط المستقيم الذي ذكره سبحانه وتعالى بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:٦].
وقيل في العبادة: هي أن تتولى ولاية الله وتتقمصها، فتكون من الذين قال الله فيهم: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:٦٢ - ٦٣].
وقيل: العبادة هي أن تؤدي المفروض، وتجتنب المحظور، وأن تتقرب بالمستحبات، وتنتهي عن المكروهات.
ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية يرى أن في هذا التعريف الأخير نظراً، وذلك عندما شرح حديث الولي في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه يرفعه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول الله تبارك وتعالى: {من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلىَّ عبدي بأحب مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل} الحديث.
فـ ابن تيمية يرى أن الحديث قسَّم الناس إلى قسمين: سابق بالخيرات، ومقتصد، وهذا لا يعفينا من التقسيم التفصيلي، لا النقلي التجريبي الذي نقله بعض الفقهاء ثم سكتوا عنه.
إذاً: فالعبادة على درجتين، لكن من يقول لكم: إنها على ثلاث درجات، فقد صدق لقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:٣٢].
إذاً: أقسام العباد في هذه الآية ثلاثة أقسام: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:٣٢].
وعند ابن القيم وابن تيمية أن الثلاثة يدخلون الجنة، بيض الله وجهي الشيخين فقد أدخلونا ونحن ظلمة لأنفسنا في الثلاثة، ولو كان على الصنفين وهو رأي الجمهور، لما دخل الظلمة في قوله سبحانه وتعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [الرعد:٢٣].
إذاً: فالظالم من ترك بعض المأمورات، وارتكب بعض المحظورات.
والمقتصد: من فعل الفرائض واجتنب الكبائر.
والسابق بالخيرات: من أتى بالفرائض والنوافل واجتنب المحرمات والمكروهات.
قوله: {يا عبادي} العبودية عرفها أهل الإسلام كما أسلفت، ولكن لبعض الناس من أرباب القلوب والسلوك تعريف، ولكنه كالزهرة يشم ولا يُعَك، وبعض هذا التعريف نرفضه ولا نقبله، لأنه جاء من غلاة الصوفية كقول الصوفي الغالي: العبادة هي ألا تطلب عليها ثواباً.
كيف والله يقول في عباده: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ} [الفتح:٢٩]؟!
وكيف والله سبحانه وتعالى قال: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران:١٦٩ - ١٧٠]؟! كيف لا يفرحون؟!
فهذا التعريف يعارض فرح المؤمنين بجزاء الله، والصوفي الآخر الغالي يقرأ قوله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران والله يتحدث عن أهل أحد {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:١٥٢] فصفق بين يديه وقال: سبحان الله! وأين الذين يريدون وجه الله؟!
الله يقول: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران:١٥٢] أي: الغنائم، ومنكم الأبرار الأخيار الذين يريدون الآخرة: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:١٥٢] لكن هذا جعل الصنفين كليهما باطلاً ومتبراً عملهم وهذا قول.
وهناك تعريف آخر يعرفه سحنون المغربي المالكي يقول: العبادة هي الرضا بالمصائب، ولكنه ليس بواجب، بل الرضا مستحب والصبر واجب.
وسمنون العابد يرى أن العبادة: هي أن تتقبل البلاء وأن تنجح في الاختبار، حتى كان يقول كما في صفة الصفوة: اللهم أجر بلاءك علي بما شئت، ويقول:
إني أنا عبدك المذلل فحيثما شئت فامتحني
قالوا: فابتلاه الله بحصر البول، فكان يمر على الأطفال ويقول: ادعوا لعمكم الكذاب، والله عز وجل يقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:٣١].
قال الفضيل بن عياض: اللهم لا تبلنا فتفضحنا، الستر الستر والعفاف العفاف.
كأن رقيباً منك يرعى مسامعي وآخر يرعى مسمعي وجناني
فما خطرت من فيَّ بعدك خطرة على القلب إلا عرجا بعناني
{يا عبادي} هذه أشرف لفظة، والنبي صلى الله عليه وسلم بلغ أعلى مقامات العبودية، أما نحن فمنا مقتصد وسابق وظالم لنفسه، والناس درجات، بين كل درجة والأخرى كما بين السماء والأرض، والدرجات عددها لا يعلمها إلا الله، ولكن منزلة الوسيلة ليست إلا مقعداً واحداً، هو محجوز للرسول عليه الصلاة والسلام، وهو أعلى درجات الهداية والعبودية التي ارتقى إليها صلى الله عليه وسلم.
وهل يسمى الكافر عبداً؟
نعم.
يسمى عبداً في الإطلاق الخلقي الأمري الكوني، وأما الإطلاق الديني الشرعي فلا يسمى عبداً، لأنه عبد بالقهر والقوة، وليس عبداً بالانقياد والطاعة كما قال تعالى: {ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:١١] فأتى المؤمن طائعاً فكان عبداً، وأتى الكافر كارهاً فكان عبداً، فعبودية الكافر كونية خلقية، وعبودية المسلم أمرية دينية شرعية، فكونوا ممن انقادوا إلى (لا إله إلا الله) وقبلوا دعوة الله.