للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بداية نبوته عليه السلام]

قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} [طه:٩] هل أتاك يا محمد هذا الحديث المذهل العجيب الذي سمعت به الدنيا، وأنصت له الدهر، وتناقلته الركبان، وروته الأجيال جيلاً بعد جيل؟ {إِذْ رَأى نَاراً} [طه:١٠] أتى بأهله بعد أن رعى الغنم عشر سنوات، وكانت امرأته في المخاض، فأظلم عليه الليل، ومعه قطيع من الغنم، والأنبياء كلهم عليهم السلام رعوا الغنم؛ لأن من يرعى الغنم يجد دربة وحلماً وتجربة لرعي الأمم -ولذلك رعى رسولنا صلى الله عليه وسلم عن الغنم- فأظلم على موسى الليل، وكان في تلك الليلة - كما ذكر ابن كثير - سحاب ومطر وبرق ورعد، وأراد أن يشعل ناراً يستدفئ بها هو وأهله، ويوقد بها طعامه، لكن لم توقد النار، أتى بالحجارة يقرع حجراً بحجرٍ، فما قدحت ناراً لحكمة أرادها الله.

راعي غنم ليس في مخيلته أن يكون نبياً من الأنبياء، ورسولاً من الرسل، ومن أولي العزم الخمسة، فلما أظلم عليه الليل رأى ناراً تلمع في طرف وادٍ بعيدٍ، فاستبشر، وقال: هذه النار إما أن أجد منها قبساً آتي به إليكم لتستدفئوا، ونتعشى على النار، وإما أن أجد خبراً من الأخبار لعل صاحب هذه النار يهديني الطريق، لكن وجد من يهديه إلى جنة عرضها السماوات والأرض، ووجد من يهديه إلى لا إله إلا الله، إلى الطريق المستقيم الذي إذا لم يهتد إليه العبد فوالله لن يهتدي أبداً، والذي إذا لم يسترشد به العبد فوالله لن يرشد أبداً، والذي إذا لم يستكف به العبد، فوالله لا يكفى أبداً، والذي إذا لم يحتم به العبد، فلن يحتمي أبداًَ، فذهب وإذا بالنار غير النار، فلما اقترب منها، سمع هاتفاً يهتف.

{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} [طه:٩ - ١١] سبحان الله! من يعرف موسى في الصحراء؟! ومن هو موسى حتى يعرف عند القبائل الصحراوية والبادية؟! ومن هذا الذي يعرفه، وهو ليس له قرابة ولا رحم ولا أخوال ولا أبناء عم في الصحراء؟ {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} [طه:١١ - ١٢] سبحان الله! الله يعرِّف موسى به، ما أعظم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى! وموسى يعرف الله بآياته وأسمائه وصفاته وصنعه في الخلق، سبحان الله!

وفي كل شيء له آيةٌ تدل على أنه الواحد

فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد

{إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} [طه:١٢] لماذا يخلع نعليه؟ وما هو السر في خلع النعلين؟

قال أبو ذر وأبو أيوب وعلي بن أبي طالب ثلاثتهم قالوا: [[كانت الحذاء من جلد حمار، والوادي مقدس لتكليم الله عز وجل]] سبحان من يشرف بقعةً على بقعة، وإنساناً على إنسان، وبلداً على بلد، وزمناً على زمن، مكة الحرم قطعة أرض بين جبال سود، لا حدائق غناء، ولا بساتين وارفة الظلال، ولا أنهاراً، ومع ذلك شرفها الله على بقاع العالمين، ومحمد عبد من العباد من لحم ودم وعصب وعظم شرفه الله على الناس، ويوم عرفة ساعات ودقائق ولحظات وأمنيات جعلها الله أعظم الأيام من أيام السنة، ويوم الجمعة كذلك يوم من أيام الله جعل الله له ميزة.

{إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} [طه:١٢] اليوم تقدس الأودية، الليلة حدث عظيم في حياتك يا موسى، هذه الأوقات سوف تعيشها مع الله، وسوف تجد من الله- عز وجل- كلاماً عجيباً {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:١٢ - ١٣].

أنت اليوم يا راعي الغنم مختار لتكون رسولاً، أنت اليوم يا راعي الضأن، سوف تبعث إلى الطاغوت الأكبر إلى شيخ الضلالة فرعون تدعوه إلى لا إله إلا الله، أنت يا من يهش على غنمه بعصاه سوف يكون لك ذكر في القرآن والتوراة والإنجيل، وسوف تكون نبياً من الأنبياء، أنا اخترتك ما زكاك أحد لدي، وأنا عرفتك وما توسط لك أحد من الناس، ولا شفع لك أحد من البشر، من الذي يعلم المزكى من غيره إلا الله! {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:٣٢] الصور صور، والبشر بشر، والناس ناس، لكن القلوب يعلمها الله.

جاء عند ابن كثير: أن الله قال له: أتدري يا موسى لماذا اخترتك؟ قال: لا أدري يا رب، قال: نظرت في قلوب العباد، فوجدت قلبك أكثر قلوب العباد تواضعاً لي، سبحان الله! موسى كان أعظم الناس تواضعاً لله، أثر عنه أنه ما جلس مع أحد من الناس إلا ظن أن جليسه أعظم منه وأعلى وأحسن، لكن أين حالنا من هذا الصنف؟ ربما يظن أحدنا أنه خير من في المسجد -نعوذ بالله من الغرور، والعجب، ونعوذ بالله من التيه والانقطاع من حبل الله- لأن من يركب رأسه في الضلالة والفجور والمعصية، ثم يظن أنه من خير الناس، هذا رجل مخذول محروم، أصابه خذلان وحرمان من طاعة الله عز وجل.

<<  <  ج:
ص:  >  >>