[طرائف من حياة الصديق]
ومن الطرائف في حياته: أنه مر بابنه فأخرجه، فتأخر ابنه فعاد إليه يصيح عليه عند الباب، وكان عند أبي بكر حدة، ويقول: أخرته فلانة، يعني: زوجته، يقول: ما خرج معنا يدرك تكبيرة الإحرام أخرته فلانة.
ومن الطرائف في حياته التي رواها البخاري، أن ضيوفاً أتوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر يتصدى للضيافة في أول الناس هو وسعد بن عبادة، فأكثر ما ينطلق من الضيوف مع أبي بكر وسعد لأنهما أكرم الناس وعندهم تجارة وخير، فكان أبو بكر من المهاجرين، وكان سعد بن عبادة من الأنصار، قال: كان بعض الصحابة يضيف اثنين وثلاثة على حسب ما عنده من الطعام، وكان أبو بكر يأخذ الثمانين وحول ذلك، فانطلق بهم إلى سرحة معه، فقال لـ بنت أبي فراص -أي زوجته- اصنعي لهؤلاء طعاماً، وصنعوا طعاماً، وذهب هو وقال للناس أن يتعشوا ويأكلوا، فقدموا الطعام، وذهب هو إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عنده ضيوف، لكن يريد أبو بكر أن يكون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، قريباً منه حيث تأتيه وفود العرب يسمع ماذا يقولون؟ وماذا يقال له؟ ولا يرتاح أن يكون في بيته ويفارق الرسول صلى الله عليه وسلم، وترك ابنه في البيت، ليضيف الناس، فصنعوا الطعام، وأنزلوا الصحاف للناس ليأكلوا، وقال الضيوف من العرب: والله لا نأكل حتى يأتي أبو بكر، فبرد العشاء عليهم، وأتى أبو بكر بعدما نام الناس، قال: أين الضيوف؟ نام بعضهم وبعضهم لم ينم، قال: قدمنا لهم الطعام، ولكن ما أكلوا، واختفى ابنه -وهذا في البخاري - اختفى وراء الستار خوفاً من أبي بكر.
قال: يا غنثر! يقول لابنه، وسبَّ، وجدَّع، لكنه يتأثر، كلوا ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم، فأنزل الضيوف يأكلون، قالوا: والله ما رفع لقمة إلا أتى بدلها لقمة، قال: فلما أكل هؤلاء الثمانون ما نقص من الصحاف شيء، فوزعها في أهل المدينة.
ونص على ذلك النووي في رياض الصالحين في باب كرامات الأولياء رضي الله عنه وأرضاه.
وكان شديد الحدة، دخل مرعى الصدقة الذي تقسم فيه إبل الصدقة ومعه خطام، قال لـ عمر: ادخل معي ولا يدخل أحد.
فوقف الناس الأعراب، والمسلمون، والفقراء خارج السور، يريدون أن يأخذوا شيئاً من الإبل، فدخل وقال: للحارس لا يدخل أحد، فدخل أعرابي مع دخول عمر.
فنظر إليه أبو بكر، فأخذ الخطام فضرب الأعرابي على رأسه بالخطام، وقال: اخرج.
ثم التفت فتأثر، وتذكر لقاء الله {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:٦] قال: تعال يا أخا العرب تعال، اقتص مني خذ الخطام، قال عمر: والله لا تكون، قال: ولم؟
قال: كلما أدبنا الرعية ضربونا، أي: تريد تسنها سنة، يعني: كلما أدبت إنساناً مشاغباً قام يضربني، لأنه لو فعلها أبو بكر كان عمر يفعل ذلك.
قال: ماذا ترى؟
قال: أعطه جملاً من الجمال.
قال: صدقت، فأعطاه جملاً بالخطام، وقال: خذ، والأعرابي يريد الجمل ولو بعشرين ضربة، فأخذها وخرج وقد عفا عن أبي بكر، وقال: غفر الله لك! وهذا الذي يريد رضي الله عنه وأرضاه.
ومن الطرائف في حياته: أنه كتب صكوكاً لأناس يتألفهم على الناس؛ والتألف في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن من الأراضي العامة يتألفهم، فكتب لـ عيينة بن حصن أرضاً قريبة من المدينة يتألفه وادٍ فيه ماء، قال: فأتى عيينة بن حصن إلى أبي بكر رضي الله عنه وقال: أنجز لي ما وعدتني من الأرض، فكتب له رسالة وقال: مر بـ عمر يرى الرسالة؛ لأنه مستشاره، فمر إلى عمر وهو يطين حائطاً له، فقال: أرني الرسالة؟
فأراه فقطعها، ثم رماها، فقال: كنا نتألف الناس في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ونحن ضعفة، فأما الآن فنحن أقوياء، إما أسلمت وإلا هذا السيف.
قال: أنت الخليفة أم أبو بكر؟
قال: أنا هو غير أنه إياي! وهذا من أجمل ما قيل في كلام العرب، يقول: أنت الخليفة لماذا تشق المرسوم، قال: أنا وهو شيء واحد.
فأقره أبو بكر، وتبسم لما سمع خبره، لأنه يفوضه في كثير من الأمور، ومقصود عمر أنه لا تتألف الناس والإسلام قوي كما في عهد الضعف، أما في عهد القوة فمن يدخل فبها ونعمت! ومن يخرج يقتل بالسيف، بعدما وضح الدين، فألغى أبو بكر الإقطاعيات بسبب كلام عمر رضي الله عنه وأرضاه.
وكان أبو بكر إذا تحدث وقف عمر كالحارس على ظهره، أي: كالجندي، يريد أبو بكر أن يتكلم للناس، يقف رضي الله عنه وأرضاه من باب التشريف لـ أبي بكر والتقديم له يقف حتى ينتهي من الكلام، ويسل سيفه بين يديه.
وقال الأحنف بن قيس: [[دخلت المدينة فإذا الصحابة مجتمعون، وإذا شيخان أحدهما يقبل رأس الآخر، قلت: من هذان الشيخان؟ قالوا: أبو بكر وعمر]] أي: اختلفوا في مسألة ثم تراضوا، فقام هذا يقبل رأس هذا، وذلك لأن عمر قال لـ أبي بكر: لا تقاتل من منع الزكاة ولكن ادعهم، فقام أبو بكر غضباً من كلام عمر، فأخذ بلحية عمر وكانت كثة، وهز رأسه، وقال: جبار في الجاهلية، خوار في الإسلام؟!
يقول: كنت تخوف الناس في الجاهلية، ولما أتيت في الإسلام أصبحت جباناً، فدعا له بالبركة ثم عفا عنه، ثم قام معه، وكان من أول من قاتل معه في سبيل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
انتهت محاضرة " أبو بكر في عصر الذرة" وأسأل الله أن يجمعنا به، وأخباره طويلة، ومن أراد الاستزادة فليراجع كتب التاريخ، وليعش مع أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وليتقدم بين يديه، وليسمع أخباره؛ فإنها مضرجة في الصحيح، بل في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم عند مسلم قال: {من أصبح منك اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا.
قال: من زار مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا.
قال: من شيع جنازة؟ قال أبو بكر: أنا.
قال: من تصدق بصدقة اليوم؟ قال أبو بكر: أنا، وسكت الناس، قال: ما اجتمعت هذه الخصال في امرئ في يوم واحد إلا دخل الجنة} وهو من أهل الجنة نشهد الله على ذلك، ونشهد الله على محبته فإنه كان من أكبر الأسباب والمتسببين من الناس في نشر هذا الدين، وفي اجتماعنا في هذا المسجد، وفي نزول هذا الهدى، وفي انتصار هذا الدين، وهذا المنهج الرباني، وفي بقائه في الأرض، هو من أكبر المناصرين، فرضي الله عنه وأرضاه.