أيها الناس! لما ارتحل عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة قام بإنجازين عظيمين:
الإنجاز الأول: بناء المسجد للصلاة.
والإنجاز الثاني: توحيد القلوب وتقويتها بالصلة مع الله.
فلما بنى مسجده عليه الصلاة والسلام أسسه على التقوى، ولما ألَّف بين القلوب ألَّف بينها على التقوى، قال سبحانه:{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[التوبة:١٠٩].
اجتمع الناس قبله عليه الصلاة والسلام على روابط، فمنهم من جعل رابطة الدم هي الرابطة الوحيدة التي تجمع الناس، ومنهم من رضي باللون، فمايز بين الناس؛ بين الأبيض والأحمر والأسود.
ومنهم من رضي بالوطن؛ فعشق الوطن وعبده، وتغزل به وقبَّل ترابه.
ومنهم من جعل الجنس رابطته.
وأما محمد عليه الصلاة والسلام فأتى برابطة لا تفصم، ولا تقطع، ولا تموت، ولا تمرض؛ لأنها نزلت من العرش، من عند الرحمن الذي على العرش استوى، والله هو الذي أملك وهو الذي أنزل، فأول الرابطة والحبل عند الله، وآخر الحبل في قلوب المؤمنين، فامتن الله عليهم بقوله:{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:٦٣] فله الحمد والشكر أن آخى بين هذه الأمة وألف بين قلوبها.