[قصة الثلاثة النفر الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار]
وقبل أن أتحدث عن كثير من الآيات والأحاديث أسوق قصة يرويها محمد عليه الصلاة والسلام ويتكلم بها؛ لأنه كان يربي الناس إما بضرب المثل، أو بالخطابة العارمة الجياشة التي تصل إلى القلوب، أو بالقصص الصحيحة التي تحيي الأرواح.
يقول عليه الصلاة والسلام: {بينما ثلاثة آواهم المبيت إلى غار في جبل}.
دخل ثلاثة من بني إسرئيل في غار، وهو الكهف في الجبل، فانطبقت عليهم الصخرة، فلما أغلق الله عليهم باب الغار بهذه الصخرة، وقفوا في موقف ضيق حرج، وردوا أمرهم إلى الله، والعبد إذا ضاق فإنه لا يلتجئ إلا إلى الله الواحد الأحد، أرأيت إلى الإنسان إذا ضاقت به الحيل، فإلى مَن يلتجئ؟ قال تعالى: {وإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:٥٣].
يونس بن متى في بطن الحوت يلتجئ في الظلمات الثلاث إلى الله الواحد الأحد ويقول: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:٨٧].
فتقطعت بهم الحيل، وانتهت بهم أسباب الدنيا، وتصرمت بهم حبال الناس، ولم يبق إلا حبل الله.
يا واهب الآمال! يا حافظ القلوب! يا مقوي حبال الطائعين بحبلك! يا مرسل الأسباب لأوليائك! انقطعت بنا الحبال.
يا واهب الآمال أنت حفظتني ومنعتني
وعدا الظلوم علي كي يجتاحني فنصرتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك منعتني
تباكوا في الغار، فسمعهم الواحد القهار {فقال أحدهم لإخوانه: لا ينجيكم إلا عملكم الصالح فادعوا الله بأحسن أعمالكم}.
وهذا درس لنا؛ فإنه لا ينجي العبد من الكربات والظلمات، ولا من الأمور المدلهمات إلا تقوى رب الأرض والسماوات.
زكريا يرفع يديه يدعو الله أن يصلح زوجته، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء:٩٠] لماذا؟ {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:٩٠].
فلما قال لهم أخوهم: فادعوا الله بصالح أعمالكم.
تقدم الأول، فقال: {اللهم إنك تعلم -ولا زال الله يعلم، فعلمه أبدي سرمدي سُبحَانَهُ وَتَعَالَى- أنه كان لي أبوان شيخان كبيران} انظر إلى التصوير العجيب في الحديث الأب والأم إذا كبرا وأتاهما الهرم أصبحا في منظر بئيس، ترحمهم القلوب من الأجانب فكيف بالقريب! قال: {وبلغ بي من البر أني لا أغبق عليهما أهلاً ولا مالاً} لا يسقي أطفاله اللبن، ولا يقدم لأهله الطعام حتى يشبع أبوه وأمه ويروَيان، قال: {ونأى بي طلب الشجر ذات يوم، فلم أرجع حتى ناما} أتى هذا الرجل، وهو يرعى الغنم بعد صلاة العشاء، ثم حلب إبله وبقره، وتقدم باللبن في الإناء، فأتى وإذا بالشيخين نائمين، فقام على رأسيهما، وأطفاله يتضاغون عند أقدامه، لا يجدون مضغة، ولا يجدون من أبيهم ما يسد عوَزَهم أو جوعهم قال: {فانتظرت حتى برق الفجر، ولم أقدم أطفالي على والديَّ} فلما طلع الفجر استيقظ الوالدان، فسلم لهما اللبن فشربا، قال: {اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء مرضاتك، ففرج عنا ما نحن فيه، فتزحزحت الصخرة شيئاً بسيطاً؛ لكن لا يستطيعون الخروج، وقال الثاني: اللهم إنك تعلم أنه كان لي ابنة عم أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، وإني راودتها عن نفسها، فأبت، حتى أَلَمَّ بها قحط وفقر وجدب، فقدمت لها مائة دينار، فلما تمكنت منها، قالت: اتق الله! ولا تفض الخاتم إلا بحقه فتركتها، اللهم إن كنتَ تعلم أني تركتُ ذلك ابتغاء مرضاتك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، ولكن لا يستطيعون الخروج، وقال الثالث: اللهم إنك تعلم أنه كان لي أجراء -أي: عُمَّال- فأعطيت كلاً أجرته إلا عاملاً واحداً، ذهب مغاضباً، ولم يأخذ من أجره شيئاً، فجمعت ما له من مال، وثمرته له، فلما أتى قلت: هذا المال جميعه لك، قال: لا تستهزئ بي.
قلت: بل كل هذا لك، فأخذه ولم يبقِِ لي شيئاً، اللهم إن كنت فعلتُ ذلك ابتغاء مرضاتك، ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، وخرجوا يمشون}.
والدرس الوحيد الذي نريده وهو الشاهد: بر الوالدين
يوم يقول الله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:٢٣] قرن الله حقه بحق الوالدين، وجعل الله رضوانه في رضا الوالدين؛ لأنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الذي يتولى حق الوالدين.